نظم قبل أيام في لندن، وتحديدا في السادس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، مهرجان تراثي ثقافي حضره الآلاف من أبناء الجالية الفلسطينية والعربية والمتضامين من الجمعيات البريطانية.
هذا المهرجان، الذي نظمه منتدى التفكير العربي، يأتي في سياق معركة رواية ورواية مضادة يخوضها الفلسطينيون عبر العالم، فبعد سعي إسرائيل لاستكمال احتلالها، وطرد وتهجير الفلسطينيين، تقوم الآن بمحاولة السطو على تراثهم وتاريخهم وهويتهم عبر ترويج رواية صهيونية تزعم أنهم موجودون منذ آلاف السنين، وأن الفلسطينيين أقلية لم تكن يوما ذات حضارة أو تراث!
وفي سياق مواجهة هذه الرواية، تجمع الفلسطينيون في لندن، عاصمة وعد بلفور، تحت راية واحدة للتعبير عن تمسكهم وأجيالهم المولودة في بريطانيا بوطنهم، وأحيوا في مهرجان التراث الفلسطيني ثقافة فلسطين وتراثها وموسيقاها وزيتها وزيتونها ومقلوبتها وعملاتها وخرائطها، تحدثوا وغنوا ودبكوا، كل ذلك بمثابة أسلحة ثقافية استلها فلسطينيو بريطانيا والجالية العربية والمتضامين في وجه محاولات صهيونية عابرة للقارات لتزوير التاريخ، واختطاف الذاكرة، وترويج رواية صهيونية مفادها أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، فإحياء التراث الفلسطيني والتجمع في رحابه هو معركة وعي واجبة، وضرورية، لتدعيم الرواية الفلسطينية لحقيقة الصراع.
إن مثل هذه التجمعات والمهرجانات هي فعاليات ضرورية في سياق مواجهة المروية الصهيونية. ففي بريطانيا على سبيل المثال، يقدر عدد العرب بمليون عربي وقرابة 4 ملايين مسلم، هؤلاء قوة بشرية وخزان بشري مهم في تصويب سياسات المملكة المتحدة والتأثير عليها، ولو بدا ذلك محدودا في نظر البعض، لكنه في الحالة العامة بالغ الأهمية، والحقيقة أن هناك مدنا وبلديات كانت أصوات العرب والمسلمين فيها بيضة قبان.
وعلى مدار يوم كامل، تجمع الآلاف من الفلسطينيين والعرب والمتضامين معهم وزوّار أجانب وشاركوا في المهرجان لإحياء الثقافة الفلسطينية. عاشوا الفن الفلسطيني، والطعام الفلسطيني، والصور والعملات، وشاهدوا أفلاما باللغتين العربية والإنكليزية توثق مراحل تاريخية بالغة الأهمية من الوجه الحضاري لفلسطين قبل إقامة دولة الاحتلال. فعرض فيلم فلسطين 1920، للمخرج والمنتج الفلسطيني أشرف مشهراوي، الذي دحض المروية الصهيونية عبر الحقائق التي رصدها الفيلم، والتي تؤكد أن مقومات بناء الدولة كانت متوفرة لدى الفلسطينيين قبل النكبة، وأنهم كانوا قادرين على بناء دولة حقيقية لو أتاحت لهم الظروف السياسية ذلك، حيث تتبع الفيلم مقومات الدولة الفلسطينية في عام 1920 قبل احتلالها إسرائيلياً، مع الوقوف على الأدلة والشواهد التي تُثبت وجود دولة مكتملة الأركان ومتفوقة في جوانب عدة على مستوى المنطقة، ومزدهرة حضاريا واقتصاديا وثقافيا.
السفير الفلسطيني في لندن الدكتور حسام زملط، والذي حضر المهرجان، قال "إن الشعوب المتجذّرة قادرة دائماً على الاستمرار والتصدي، والقضية في النهاية هي معركة هويّة وليست معركة مادية فقط"، ووصف السفير المهرجان بأنه "نضال ثقافي ومعركة وعي"، واعتبر أن رسالة هذا المهرجان هي مضاد حيوي ضد إسرائيل والصهيونية، وأن المعركة معهما هي معركة حضارة وهوية.
والحقيقة أن ذلك صحيح بطبيعة الحال، فمعركة الصهاينة مع الشعب الفلسطيني هي معركة شاملة، وليست محصورة في استعمال القوة العسكرية التي فشلت في إبادة الشعب العربي الفلسطيني. فالمشروع الصهيوني هو مشروع إحلالي كولينيالي، وكل اتفاقيات السلام التي وقعها هي اتفاقيات أمنية تهدف بالدرجة الأولى لتحقيق أمنه. فالإسرائيليون يعرفـون أكثر من غيرهم أن الجيوب الاستيطانية الإحلالية التي قدر لها البقـاء (مثـل أميركا الشـمالية وأستراليا)، نجحت فقط لأنها أبادت السكان الأصليين، أما تلك التي لم تـنجح فـي ذلك (مثل الجزائر وأنغولا وجنوب أفريقيا)، فقد تمت تصفيتها.
بالمحصلة، فإن هذه التظاهرة الثقافية التي انعقدت في لندن، وحج إليها آلاف الفلسطينيين والعرب والبريطانيين والأجانب من كل الجنسيات، هي استفتاء شعبي آخر في بريطانيا على مركزية القضية الفلسطينية في الوعي والمخيال الفلسطيني والعربي، ومركزيتها كذلك في قلب وعقل أحرار العالم من المؤمنين بقضية التحرر الوطني، وهذا هو المطلوب من كل أنصار فلسطين والمناضلين من أجلها في العالم العربي وأوروبا، وفي كل مكان، أن يروجوا قضيتهم كقضية شعب تحت الاحتلال يريد أن يتحرر، وقضية مهجّرين يريدون دعم تحرير وطنهم والعودة إليه. باختصار قضيتنا هي قضية نضال من أجل العدالة وحقوق الإنسان.