قتلت إسرائيل مائة وخمسة عشر إنساناً فلسطينياً في يوم واحد، فهل هذا طبيعي؟ هل بات طبيعياً أن يمرَّ خبر كهذا في العالم العربي تحديداً، وفي العالم عموماً؟
استشهدوا من الجوع والبرد والخذلان، فيما تواصل دولة الإبادة محاصرة 2 مليون فلسطيني وتختار يومياً توزيع الموت عليهم شمالاً وشرقاً، جنوباً وغرباً، ما يجري لا يمكن أن يكون طبيعياً، ومن لا يرى في ذلك تهديداً لضميره قبل مصيره لا فائدة من الكتابة له، كنا نتساءل كيف اجتاح المغول بغداد وأين الأمة وكيف سقطت الأندلس وها نحن نشاهد الحدثين على الهواء مباشرة في أكثر الاجتياحات المغولية دموية، وأكثر لحظات الأمة هواناً في فلسطين ولبنان.
وتتواصل حرب الإبادة على قطاع غزة للعام الثاني، ويتواصل الحراك الشعبي الغربي معها فيما تغطُّ شوارع عربية في النوم تحت وطأة قسوة الحياة، أو سيف الجلاد المشهر في وجه أي حراك شعبي مهما كانت عناوينه وتحت أي لافتة أتى، وحيث يتوزع العرب في أوروبا وأمريكا وباتوا مجتمعات أصيلة في تلك البلدان، وحيث إن دورهم برز بقوة خلال العام الماضي بين التظاهرات والانتخابات فلا بد من النقاش المستمر حول تأثير الجاليات العربية في بريطانيا وعموم أوروبا وأمريكا، وكيف يمكن لنا أن نجمع بين المتناقضين: أن نكون مواطنين في دول غربية بعضها يشارك بشكل مباشر في حرب الإبادة على فلسطين، وأن نؤثر في نفس الوقت من الداخل في قراراتها تغييراً أو تقليلاً من سوئها.
أولاً لا بد من الاتفاق على أن لا خيار أمام الجاليات العربية والمسلمة في الغرب سوى الانخراط في العمل السياسي والتأثير في الحياة العامة في تلك الدول التي يوجدون فيها، وذلك لسببين أحدهما قطعهم الطريق على محاولة تهميشهم من قبل أحزاب يمينية صاعدة هناك، والتي ترمي ليس فقط إلى ذلك بل لعزلهم وتشويه صورتهم كمقدمة لمزيد من الإجراءات ضدهم ربما تصل لاستهداف وجودهم كأقليات، والسبب الثاني لضرورة انخراط الجاليات في الحياة السياسية هو وفاؤهم لبلدانهم وذويهم الذين يتعرضون لسياسات عدوانية ثبت أن أميركا والغرب متورطان فيها بشكل مباشر، ففي فلسطين كشفت الحرب الأخيرة عن اعتبار أمريكا والغرب إسرائيل قاعدة متقدمة للمصالح الغربية، كما أن دولة الاحتلال لم يكن بإمكانها مواصلة حربها دون الدعم الأمريكي والغربي، وهذا واحد من أهم الأشياء التي كشفتها حرب الإبادة والتي تستوجب انخراطاً للجاليات لتقييد ذلك الدعم الغربي اللامحدود.
كذلك كشفت حرب غزة أنه في باقي الدول العربية التي يحكم المستبدون فيها قبضتهم على مواطنيهم لم يكن بإمكانهم الاستمرار في التربع على عروشهم دون موافقة من الدول الغربية التي ترى في أولئك المستبدين كنزاً استراتيجياً يضمن لهم مصالحهم، فالانخراط في الحياة السياسية هو أداة رئيسة للجاليات للتأثير في الغرب من أجل مستقبلهم وأبنائهم ووجودهم كمواطنين وأقليات مصونة، وكذلك من أجل بلدانهم الأصلية.
ثانياً: لقد أكدت الحرب الأخيرة ازدواجية المعايير الغربية في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، وإن كانت الجاليات العربية تدرك جانباً من ذلك لكنها لم تتصور قدر الانحدار والقاع الذي انزلقت إليه الدول الغربية التي يقيمون فيها وبهذا المستوى من التردي، فالعرب في أوروبا وحتى أميركا مصدومون من القاع الذي انحدرت إليه تلك البلدان التي كانوا يرددون يومياً لأشقائهم في المشرق أنها مهما هوت فلن تصل لهذا المستوى المتدني من انحدار القيم والأخلاق، فقد ظهرت تلك الدول في دعمها المطلق والأعمى لإسرائيل في حرب إبادتها بلا أخلاق، وانكشف سياسيوها وسقطت عنهم كل أوراق التوت.
ثالثاً: سلسلة الانتخابات الأخيرة التي جرت في بريطانيا وأمريكا خلال حرب الإبادة، كشفت تأخر الجالية العربية كثيراً في الانخراط في العمل السياسي ومختلف مناحي الحياة وضعف تأثيرها بمواجهة لوبي صهيوني متغلغل في كل الأحزاب وقطاعات الحياة العمومية، كما كشفت تلك الانتخابات ونتائجها عن عدم انخراط كافٍ للجالية في الحياة السياسية بالقدر المؤثر، بمقابل تغلغل صهيوني نافذ. وتفسير ذلك النفوذ موضوع منفصل يحتاج نقاشاً آخر، لكن لا بد من الاعتراف بذلك القصور والتفكير والتخطيط والعمل للانخراط في الحياة السياسية خاصة الشباب من أبناء الجيل الثاني والثالث الذين هم من يعوَّل عليهم مستقبلاً وخاصة في الأحزاب، فهذه الدول هي دول أحزاب ولا يمكن التأثير إلا من خلال الانخراط المبكر في العمل الحزبي فيها، وغير ذلك معناه البقاء على هامش الحياة السياسية.
وكذلك من الدروس المستفادة أنه لا بد من التخطيط طويل المدى وعدم الاعتماد على ردات الفعل، فمثلاً في حالة أمريكا، إن دعم جزء كبير من الجالية المسلمة هناك لترامب للانتقام من بايدن لا أظن أنه عمل يخدم الجالية أو قضايا بلدانها الأصلية، فنظرة على تشكيلة ترامب المختارة للشرق الأوسط تشي بأنه لم يحفظ للعرب والمسلمين أي جميل وإنما جاء بعتاة الصهاينة في حكومته الكارهين لفلسطين والعرب والمسلمين، كما أن حديث المسلمين هناك عن أن ترامب سيحافظ على قيم العائلة لا أظنه صحيحاً، فترامب هو بحد ذاته مثال على خيانة كل شيء وتشويه كل قيم العائلة! أما في بريطانيا، فإن مقاطعة حزب العمال المطلقة على سبيل المثال وعدم العودة له أظن كذلك أنه سيسهم في تهميش الجالية، التي هي غير موجودة كذلك في حزب المحافظين، ما يعني خروجها من دائرة التأثير.
ثمة رأي يقول إنه يجب الاستثمار في النواب المستقلين والأحزاب الصغيرة التي نتشارك أكثر مع قيمها وتشاركنا همومنا وهذا صحيح، لكن وضع البيض كله في تلك السلة سيجعل أصواتنا ربما تذهب دون تأثير ملموس، أظن أن الأوجب هو الانخراط في الأحزاب الكبرى والتأثير فيها من الداخل وتحديداً الأحزاب الأقرب لنا كأقليات مثل الحزب الديمقراطي في أميركا والعمال في بريطانيا، فطبيعة الحياة السياسية في بريطانيا وأمريكا قائمة على نظام الحزبين. من يكون اليوم في الحكم يكون غداً في المعارضة ولا أظن أن قواعد تلك اللعبة ستتغير قريباً.