رغم أنّ معظم الدول العربية غير ديمقراطية، إلا أنّ قسمًا من أجهزة إعلامها تجنّدت على مدار الفترة الماضية لتغطية الانتخابات الديمقراطية في أمريكا، وإفراد مساحات واسعة لها، والفرح لاحقًا بفوز الرئيس الأميركي الشعبوي دونالد ترامب، وهذه واحدة من صور وتمظهرات التناقض الموجودة في عقليتنا العربية، بدءًا من الأنظمة وصولًا إلى القاعدة الجماهيرية، وأعني بهذا أن تهتم بعملية ديمقراطية فيما أنت غارق في الاستبداد!
وفي ظلِّ اتسام سلوك الأنظمة بالقطيعة مع المنطق، وفي غمرة غرقها في التفكير بمحاربة شعوبها، تكون عمليًا تحارب نفسها من حيث تدري أو لا تدري، وتمكّن للمخاطر في محيطها وفي عمق أمن بلدانها، وذلك من خلال تحالف بعضها مع اليمين المتطرّف الشعبوي، ومع الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في المنطقة، فضلاً عن مشاركة بعض الأنظمة العربية في حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة ولبنان بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
التناقض كذلك ظاهرة تنسحب على سلوك الشارع العربي، الذي يتحدّث عن دعمه لفلسطين ورفضه لإبادة الشعب الفلسطيني، لكنه لا يعبّر بشكلٍ كبيرٍ عن ذلك، ولا يقوم بأيّ فعلٍ جماهيري في الشوارع، رغم مضي سنة ونيّف على حرب إبادة بشعة وغير مسبوقة، يجوع فيها الفلسطينيون جرّاء سياسة انتقامية سادية، فهل من المعقول أن يعجز 450 مليون عربي عن إدخال زجاجة ماء وحليب أطفال وطعام لإخوانهم؟ أيّة إهانة ومهانة لنا نحن العرب، وليس للفلسطينيين الصامدين بكرامة رغم كلّ الخناجر المغروسة في خواصرهم؟
إنّ هذا التجويع والقتل والانتقام السادي لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم، ولا القضية الفلسطينية خصوصاً، بل يستهدف كينونة المنطقة العربية ووجودنا باعتبارنا أمّة، فالأمّة العربية وجودها مهدّد بوصفها مجموعة بشرية من خلال مشاريع يقول الصهاينة بوضوح إنّهم يسعون عبرها لإعادة ترتيب ورسم المنطقة وتفصيلها على مقاسهم وعلى مقاس مشروعهم الصهيوني العنصري الفاشي، والذي لا يقبل التعايش مع الآخر، بل يرمي إلى استئصاله.
وبالعودة إلى ترامب، يتجلّى حجم العبث بالفرح في عواصم عربية بعودة "الفاتح" ترامب، صحيح أنّه مشهد يعبّر عن اليأس تمامًا من عالم بلا ضمير، تتساوى فيه جميع الخيارات عند البعض، ويصبح توقّع الأسوأ هو الطبيعي مع سلسلةِ الصدمات التي لا تنتهي، لكن يبقى هناك دومًا سيّئ وأسوأ، وإن كانت فروقات مجهرية. لكن السياسة تقول إنّ الفوارق مهما كانت ضئيلة، فإنّها فوارق، فما هو المثير للإعجاب إذن في قدوم عراب "صفقة القرن" ومشاريع إلغاء القضية الفلسطينية، والمسيحية الصهيونية الرامية إلى استجلاب أفكار دينية من شاكلة حروب آخر الزمان، والتصفيق لرئيس تاريخه السيّئ معروف، مع منطقتنا تحديدًا.
أيضًا، ثمّة أفراح في إسرائيل بعودة ترامب، ويمكن فهم ذلك، فملامح سياسة الرجل واضحة؛ تحالف مع حكومة اليمين الفاشي، وتطبيق "صفقة القرن"، وتسليم الضفة الغربية لإسرائيل، وشرعنة جرائم نتنياهو وتفصيل حلّ على مقاسه. أمّا عربيًا، فإنّ ترامب قال بوضوح إنّه يشعر بأنّ مساحة إسرائيل صغيرة، ما يفترض معه منطقيًا انطلاق صفارات الإنذار عربيًا جرّاء ذلك، مع اتضاح عزم الرجل على إطلاق يد إسرائيل في احتلال مزيد من الأراضي العربية، والهيمنة على المنطقة، وسلب الدول حتى المطبّعة معها أيّ شكلٍ من أشكال السيادة والاستحواذ على ثرواتها. وبمرورٍ سريع على ما يُنشر في الإعلام العبري تتضح مشاريع اليمين المتطرّف الحاكم في تل أبيب وحدود طموحاتهم التي لا تتوقف عند غزّة والضفة، بل تطاول الأردن ومصر والسعودية ولبنان وسورية... حتى المغرب العربي، أي عمليًا استباحة واسعة للدول العربية واحتلال مساحات جديدة وتحويل شعوبها، بل حتى حكوماتها لخدم "للسيد" الإسرائيلي، فعلى ماذا الفرح إذن؟
فلسطينيًا، إنّ تلك المخطّطات الإسرائيلية المعلنة، والتواطؤ الأميركي والرعاية لها لا ينبغي أن يدفعنا إلى اليأس، فهي بالمحصلة خطط لا يعني أنّها ستنجح حتمًا، لكن المعلن منها خطر جدًا، ما يدفعنا إلى توقع أسوأ السيناريوهات في ظلِّ اختلال ميزان القوى القائم، وعدم وجود ظهير للشعب الفلسطيني، ما يتطلب العمل على الوحدة، فصائليًا وشعبيًا ووطنيًا، لوقف حرب الإبادة، وتشكيل قيادة فلسطينية موحدة لقطع الطرق على مشاريع تهجير سكان قطاع غزّة ولاحقًا الضفة الغربية، والتصدّي لمن يفكّر في الانخراط في مشاريع نتنياهو لما يسمّى اليوم التالي، وذلك يتطلّب استجابة فورية من القيادة الفلسطينية لنداء "المؤتمر الوطني الفلسطيني" من أجل تشكيل قيادة موحدة ونداءات أخرى وطنية، وتطبيق اتفاق بكين، وتشكيل حكومة وحدة وطنية بشكلٍ طارئ وعاجل لإغاثة الشعب الفسلطيني، وفكِّ الحصار عنه، وطرد الاحتلال من غزّة ووقف الاستيطان بالضفة، فنتنياهو يرغب في الإفادة من الشهرين المتبقين حتى 20 يناير/ كانون الثاني القادم في تصعيد عدوانه، وتجريف شمال غزّة وجنوب لبنان، وفرض أمر واقع يصدّق عليه ترامب بمجرّد تسلمه مقاليد البيت الأبيض، ويفرضه بقوّة الهيمنة الأميركية.
إنّ الاحتلال يطبّق نكبة ثانية حاليًا، إنه يستهدف إلغاء الكينونة والوجود الفلسطينيين، وحلّ الصراع مع الفلسطينيين عبر استئصالهم، وإلغاء قضيتهم عبر إلغائهم، وذلك بقتل أكبر عدد منهم وتهجير من تبقى، وهذا حل لجأت إليه كلّ المشاريع الاستيطانية في الماضي والحاضر. لكن، وبكلّ ثقة نقول إنّه لن ينجح، ويبقى أنّ إفشاله يعتمد على وجود قيادة فلسطينية موحدة، ودعم عربي وإسلامي، وحزام شعبي عربي يضغط على حكوماته لإيقاف تلك الحرب، ووقف العربدة الإسرائيلية، فلو لوّحت الدول العربية بما تملكه من أوراق، وهي عديدة، لتوقفت الحرب فورًا.