كتاب الإسلام والدولة الحديثة : نحو رؤية جديدة للكاتب عبد الوهاب أحمد الأفندي والصادر عن دار الحكمة في لندن ويقع في 215 صفحة من القطع المتوسط يمكن اعتباره في الأدب السياسي الاسلامي نقدا ذاتيا للتجربة الإسلامية في السياسة والحكم فهو يحاول أن يهدم بعض (تابهوهات) العمل الإسلامي من خلال رسم خط فاصل بين العقيدة الاسلامية والتي تقوم على ثوابت لا يمكن المساس بها، وبين العمل السياسي من منطلق اسلامي وهو عبارة عن تجربة انسانية يمكن مراجعتها، وانضاجها في ضوء فقه الأولويات وباستغلال المساحات الواسعة للاجتهاد معتبرا أن أزمة العمل الاسلامي في كثير من الأحيان كان سببها الخلط بين البعدين أو الاسراف في بعد على حساب الآخر فكما أنه لا يمكن التعامل مع الاجتهاد الانساني على أنه أصل من أصول العقيدة فإنه لا يمكن الاجتهاد في أصول العقيدة التي جاءت بنصوص قطعية الدلالة قطعية الثبوت.
في مقدمة الكتاب يشير (أفندي) إلى أحد هذه (التابوهات) وهو التراث الاسلامي حيث عمد بعض الكتاب إلى تحصينه من النقد بغثه وسمينه إذ ينبري المفكرون الاسلاميون للتصدي لأي نقد يوجه له دون تمحيصه كرد فعل على التشكيك فيه. ويشير إلى أن هذا التصرف أضر بالتراث الاسلامي بقدر الضرر الذي أحدثه النقد المتعسف لحقائق قائمة في التراث.
كما يتناول الكتاب في ثناياه مفهوم الدولة الحديثة ونشأتها وكيف أنها بدأت بوجود قوة غاشمة يذعن المجتمع بكل فئاته إلى هذه القوة مرغما بغض النظر عن كون ما تفرضه عليهم من اجراءات تنظيمية تخضع لمبدأ الحق أو الأخلاق حيث تستمد شرعيتها من القوة فقط ، ويبين الكاتب بأنه قد ثبت عدم صحة ما كان سائدا في ذلك الوقت من اعتقاد بأن بديل الدولة وسطوتها هو الفوضى إذ أثبتت التجربة الانسانية الناجمة عن الثورات الرافضة للاستبداد أن هنالك بدائل أفضل وأكثر انسانية من الفوضى وهو الحكم الرشيد القائم على المشاركة وفقا لضوابط تحد من السلطة المطلقة للدولة بحيث تصبح الوظيفة الأساسية للدولة هي خدمة المجتمع ؛وهذا ما أدى في النهاية إلى الوصول إلى ما عرف (بدولة الرفاه) التي وصلت ذروتها نهاية الثمانينات من القرن العشرين؛ والتي يظن الكاتب أنها عبارة عن رشوة قدمت للمجتمع كي لا ينساق وراء الدعوات الشيوعية الماركسية الجارفة في وقتها؛ وعليه يعتقد أن شمس هذه الدولة أزفت على الغروب بعد سقوط المعسكر الاشتراكي. لكن هذا لا يعني أن الثوابت التي تجذرت في مجتمع الرفاهية يمكن اقتلاعها بسهولة.
وبعيدا عن الجدل حول ما إذا كانت دولة الرفاه ستستمر بنفس الزخم من عدمه يرى (عبد الوهاب الأفندي) أن التحدي الماثل أمام المسلمين الآن هو " إن الدول الغربية قامت على أسس أخلاقية مشكوك فيها وبنيت على افتراضات خاطئة حول الواقع، ولكنها قدمت مع ذلك أنجح نموذج حتى الآن للكيان السياسي الذي يحقق السلام والأمن والعدل للمواطنين ويفجر الطاقات الخلاقة للأفراد والجماعات ويؤلف بينها، من جهة أخرى فإن التاريخ الاسلامي أبرز نماذج سياسية تفوقت في نواحي كثيرة على النموذج الغربي، وهو تفوق يزيد من علوه الفارق الزمني الكبير بين التجربتين لكن الممارسات السياسية للمسلمين عجزت عبر قرون متطاولة عن الارتقاء إلى مستوى أي من النموذجين، والسؤال هو: لماذا؟"
للإجابة على السؤال السابق يعود الكاتب إلى بداية نشأت الدولة الاسلامية حيث يرى أنها أنشئت خلافا لأي دولة أخرى؛ فالانتساب للدولة الاسلامية محفوف بالمخاطر والالتزامات التي يؤديها الفرد طواعية بل ان حرمانه من بعضها يعد عقوبة مثل حرمان البعض من المشاركة في الغزوات أو حتى دفع الزكاة حيث قدم في الدولة الاسلامية البعد الأخلاقي والمعنوي على الاعتبارات المادية. كما يرى بأن المسلمون لم يواجهوا تحدي الدولة إلا بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) حيث لم يكن هنالك بديل عن استخدام القوة القهرية لفرض ثوابت هذه الدولة.
و يعتقد (الأفندي) أن المعضلة الأساسية تكمن في أن الدولة الاسلامية عند تأسيسها قامت على الطاعة المطلقة للرسول (صلى الله عليه وسلم) فهو لا ينطق عن الهوى ومن ثم خلفه أقرب أصحابه (أبوبكر الصديق) الذي ألزم نفسه بنهجه حين قال : انني متبع لا مبتدع ومن ثم عمر بن الخطاب الذي جسد واقع ما كان يدعو الناس له من قيم اسلامية واتباع لسيرة الرسول الكريم والخليفة الأول في الاسلام أبوبكر الصديق جاعلا من ضميره رقيبا على تصرفاته وحاثا المسلمين كما فعل سلفه على تقويمه. ولكن لم يكن هنالك شكل دقيق يتولى مسألة المتابعة والمحاسبة ضمن الدولة الاسلامية وان قام المسجد بهذا الدور في بعض الأحيان إلا أنه لم يكن ملزما للخليفة والأمثلة عديدة على عدم التزام الخليفتين أبوبكر وعمر بكل ما قدم لهم من مشورة من المخولين بذلك بل حكما ضميرهما في بعض القضايا .
ومع خلافة الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه بلغ الأمر ذروته في ضرورة تحديد الجهة المسؤولة عن متابعة الخليفة ومحاسبته وذلك حين عمد مجموعة من المسلمين لحصاره –رضي الله عنه- ومطالبته بالاعتزال وما كان بعد ذلك من رفضه واستشهاده واندلاع الفتنة التي لم تهدأ بعد ذلك بل أخذت أشكالا عدة للصراع بين معسكر المثاليين بقيادة علي بن أبي طالب و معسكر الواقعيين بقيادة معاوية بن أبي سفيان ، وفقا لمفارقات كبيرة فمعسكر الواقعيين لم يكن بينهم جدل على قيادتهم على الرغم من عدم اعتقادهم بقدسية قائدهم في حين شهد معسكر المثاليين جدلا كبيرا حول قائدهم الذي كان الأقرب إلى الأولياء والقديسين والأقرب من الرسول (صلى الله عليه وسلم).
ويخلص الكاتب بعض استعراض سلسة من الأحداث التاريخية إلى فشل النظرية التقليدية للخلافة لسببين متصلان أولهما المثالية المفرطة في الشروط التي يجب توافرها في الخليفة والسبب الآخر هو عدم امكانية توفر هذه الشروط في البشر ما يؤدي إلى نتيجة واحدة وهو عدم امكانية الوصول إلى النموذج المطلوب في الحكم ويقتضي ذلك التعايش مع النماذج القائمة بما فيها من عيوب.
والأسوء من هذا افتراض الكمال في البشر ووضعهم في مكانة لا يمكن لهم تبوؤها كما فعل الإمام (الخميني) فيما منحه للولي الفقيه من سلطان يفوق سلطان البشر وذلك لإنشاء الدولة الاسلامية المنتظرة فكان ما كان من دمار وانتهاك لحقوق لإنسانية.
ويخلص الكتاب إلى أنه لابد من مراجعة مفهوم الدولة الإسلامية في ضوء المعطيات الراهنة مراجعة لا تمس بأصول العقيدة وانما تعكس ما في الاسلام من سعة وحفظ لحقوق الانسان وحريته وكرامته والذي كان الاسلام سباقا في تحقيقها على القوانين الوضعية وأهمها حريته في اختيار نظام الحكم الذي يضمن تحقيق مصلحته دون اعطاء هذا النموذج وما يفرزه العصمة من الخطأ بل ايجاد أطر قانونية غرضها تقييم نظام الحكم ومساءلته، وعليه يؤكد الكاتب على ان النموذج الاسلامي للدولة لابد من أن يقوم على الديمقراطية وفي القلب منها التعددية التي تحفظ حقوق الجميع مسلمين وغيرهم ؛ نموذج يضمن المساواة بين الجميع، ويحقق العدالة ، و يوفر الأمن، والاستقرار.