كتاب "رحلتي الطويلة من أجل الحرية" (لنيلسون مانديلا) و الواقع في ما يقرب من (600صفحة) صدرت الطبعة الأولى منه باللغة الإنجليزية عام 1994م ومن ثم ترجم إلى ثلاث وعشرين لغة في مختلف أنحاء العالم لا يمثل هذا الكتاب سيرة ذاتية لكاتبها فحسب، وإنما يقدم نموذجا ملهما لمناضل ضحى بعمره من أجل أمته، ويختزل تجربة شعب ثار من أجل حريته.
كتب (نلسون مانديلا) الجزء الأكبر من هذا الكتاب بخط يده سرا وهو في سجن "جزيرة روبن" عام 1974م بمساعدة كل من رفيقيه (ولتر سيسلو) و (أحمد كاثرادا) اللذين لم يقف دورهما عند تشجيعه على الكتابة فحسب وانما تعدى ذلك إلى المراجعة والتدقيق.
تم نسخ هذا الكتاب وتهريبه سرا خارج السجن أما النسخة الأصلية منه والتي كتبت بخط يد (مانديلا) فقد تم التخلص منها بدفنها في باحة سجن جزيرة روبن ولكن سرعان ما اكتشفت من قبل إدارة السجن خلال عمليات الترميم وتم اتلافها. وقد استكمل (مانديلا) كتابة هذه المذكرات عام (1990) بعد خروجه من السجن.
يستعرض (مانديلا) في هذا الكتاب بأسلوب تحليلي شيق - من خلال تجربته الشخصية- المراحل النضالية التي خاضها شعبه ضد سياسة التمييز العنصري (الأبارتهايد) القائمة على هيمنة البيض، كما يصطحب القارئ في رحلة يمر فيها على مراحل حياته المختلفة فيراه طفلا صغيرا حيث ولد في قرية صغيرة تدعى " مفيتزو " فى منطقة "ترانسكاي" بجنوب أفريقيا يوم 18 يوليو/ تموز 1918، وقد أسماه والده عند ولادته (روليهلاهلا)، ومعناه باللغة الأفريقية "المشاغب"، ثم تلميذا فقد كان من الأطفال "السود" القلائل الذين استطاعوا دخول المدرسة الابتدائية واكمال دراسته بمدارس الإرسالية، وهناك اختير له اسم إنجليزي وهو (نيلسون) لأن الأساتذة البيض كانوا يجدون صعوبة في نطق الأسماء الأفريقية، ثم شابا يافعا يطلب العلم في الجامعة، فقد التحق بالجامعة في كلية "فورت هارى" قبل أن يُطرد منها بسبب مشاركته بالاحتجاجات الطلابية على سياسة التمييز العنصري مع رفيقه (أوليفر تامبو) عام 1940. و قد عاش (نيلسون مانديلا) فترة دراسية مضطربة وأكمل دراسته بالمراسلة فى (جوهانسبرغ) حتى حصل على ليسانس الحقوق في وقت لاحق خلال فترة سجنه . ثم يتعرف عليه القارئ موظفا بسيطا يكافح لسد رمقه في أحد مكاتب المحاماة، ومن ثم محاميا تمكن من افتتاح أول مكتب محاماة للأفارقة في جنوب أفريقيا هو و رفيقه (أوليفر تامبو).
يواكب الكتاب مسيرة (مانديلا) وقد تفتحت مداركه للعمل السياسي، فينخرط بكل مشاعره ووجدانه في حركة النضال الشعبية المناهض للنظام العنصري فيراه القارئ عضوا فعالا في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، ثم ركنا من أركانه، ثم مؤسسا وقائدا لجهازه العسكري(أمكا)، ويعيش معه وهو يقارع الظلم، جهارا من داخل صفوف الحزب ومن خلال مهنته كمحام، وخفية من خلال العمل السري وهو طريد تلاحقه سلطات القمع والاستبداد ويعيش معه سجينا سبعة وعشرين عاما، ثم مفاوضا صلبا من أجل مستقبل أمته، فرئيسا لأول حكومة شرعية ديمقراطية تحل محل حكم البيض العنصري الذي دام ثلاثة قرون.
يعرض (مانديلا) في كتابه الصراعات النفسية التي عاشها بين كونه مناضلا يطلب الحرية والعدالة والمساواة لشعبه وبين كونه ابنا، وأبا، وزوجا، وحتى جدا. فيصف في مذكراته أكثر الأوقات التي شعر بها بالألم عندما فقد والدته ولم يتمكن من حضور جنازتها وكيف اعتصر ألما لأنه كان من الواجب عليه أن يرعاها في كبرها ويكون إلى جوارها عند وفاتها، كما يصف شعوره كزوج لم يتمكن من أن يعيش حياته الطبيعية مع زوجته فقد فشل زواجه الأول أما زواجه الثاني فلم يكن قادرا على أن يقوم بدور رب الأسرة ويشرف على تربية أبنائه ويقضي وقته مع أسرته فقد قضى 27سنة من عمره في السجن وحتى عندما كان خارجه استحوذ العمل السياسي على وقته وكذلك العمل السري الذي كان يقتضي منه الابتعاد عن عائلته، وكذلك يصف (مانديلا )الألم الذي شعر به عندما أعلم بخبر وفاة ابنه الأكبر (ماديبا) وكيف كان وقع الخبر عليه، و يصف شعوره وهو أب وجد يتحدث إلى ابنته وطفلتها من خلف القضبان دون أن يقدر على ضمهما لصدره . يلخص (مانديلا) هذا الصراع في قوله : " أن تضحي بقلة من الناس تعرفهم وتحبهم لكثرة من الناس لا تعرفهم".
لكنه في مسيرة حياته وبالرغم من كل التحديات والآلام التي كابدها لم يفقد (إيجابيته) وإيمانه المطلق بعدالة قضية شعبه وبحتمية انتصاره ما ساعده على تخطي كل ما مر به من محن وصعاب.