التفكير الحر حق لكل مواطن عربي

كتب

مذكرات المناضل بهجت أبوغربية(1916-1949) : في خضم النضال العربي الفلسطيني

حفلت الفترة التي تناولتها مذكرات شيخ المناضلين بهجت أبوغربية بأحداث شديدة الأهمية في مسيرة الشعب الفلسطيني وكفاحه ضد الاستعمار مثل ثورات 1929،1933، 1936-1939 واستشهاد الشيخ عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وتأليف اللجنة العربية العليا ونشوء ظاهرة الكفاح المسلح ...وغيرها وكان لهذه الوقائع جميعها شأن خطير في المصائر التي انتهت إليها فلسطين وسقوطها بأيدي الصهيونية. 

تروي هذه المذكرات أحداث تلك الحقبة كما عاشها المؤلف وأسهم بصنعها في ساحة النضال وبالمقاومة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني خاصة في مدينة القدس التي خاض معاركها ودافع عنها حتى آخر لحظة.

هو بهجت عليان عبد العزيز عليان أبوغربية وهو في الأصل من مدينة الخليل ولكنه ولد في مدينة خان يونس حيث كان والده يعمل مدير ناحية هناك عام 1916م . وقد أمضى معظم حياته في القدس، واشترك في جميع مراحل النضال الفلسطيني المسلح خصوصا ثورة 1936-1939، وحرب 1947-1949 حيث كان أحد قادة "جيش الجهاد المقدس" وخاض معارك كثيرة منها معركة القسطل التي استشهد فيها عبد القادر الحسيني، كما جرح مرات عدة ودخل السجون والمعتقلات. وبعد سنة 1948م انضم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في الأردن وأصبح عضوا في القيادة القطرية (1949-1959)، كما كان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها، وكذلك تم انتخابه عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة ثلاث مرات.

أراد أبوغربية لمذكراته التي اختار لها عنوان "في خضم النضال العربي الفلسطيني" والتي صدرت الطبعة الأولى منها عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1993 أن تكون تأريخا للقضية الفلسطينية وليس لسيرته الشخصية التي يرى أنه لا قيمة لها بعيدا عن أحداث فلسطين التي عاشها وعايشها وساهم في صناعة أحداثها . ولذلك فإنها تعد وثيقة تاريخية غاية في الأهمية سيما أنها على قدر كبير من المصداقية فصاحبها قد عايش الأحداث وكان جزء منها كما أسلفنا وقد أرخ للكثير من الأحداث وأورد العديد من التفاصيل التي تواترت من جهات عدة.

ان مذكرات أبوغربية لهي أكبر دليل على أن الشعب الفلسطيني كان على درجة من الوعي والدراية بحجم المؤامرة التي حيكت لاغتصاب أرضه وأنه لم يكن جبانا أو جاهلا وإنما سطر بدمه ملاحم بطولية دفاعا عن أرضه وعن مقدساته بكل شجاعة وتفان وقد ساندته في هذا النضال الشعوب العربية والمسلمة . حيث بدأ نضال شعب فلسطين عام  1919 وهو تاريخ أول صدام بين عرب فلسطين وبين اليهود المهاجرين الذين بدؤوا يتوافدون إلى فلسطين اعتبار من عام 1882م كمزارعين يعملون في الأراضي التي اشتروها من اقطاعيين سوريين ولبنانيين أو بشكل محدود جدا عبر سماسرة عرب.

يشير أبوغربية في مذكراته إلى أنه كغيره من الفلسطينيين نشأ في أسرة متدينة لعب الدين دورا كبيرا في تشكيل شخصيته فقد كان يقرأ القرآن ويختمه عدة مرات في شهر رمضان كما حفظ أجزاء عديدة من القرآن الكريم و كان محافظا على الصلاة وقد حفظ الكثير من الشعر العربي . لكن بسبب الأزمات التي مرت بها عائلته فضلا عن كونه يعاني في احدى عينيه من ضعف في البصر فقد قررت عائلته أن لا يتم دراسته حيث قدرت أنه لن يتاح له العمل في الحكومة بسبب عينه ولذلك في مرحلة من مراحل حياته توقف عن الدراسة، وتوجه لتعلم إصلاح الساعات عند ساعاتي يهودي تعلم العبرية في دكانه واستمع إلى الحوارات التي كانت تقوم بين يهود فلسطين واليهود المهاجرين من أوروبا اذ اكتشف أن اليهود الأوروبيين سيما من هاجر منهم من ألمانيا كانوا شديدي العنصرية تجاه اليهود العرب ويعتبرون دماءهم أنقى منهم . وفي النهاية ترك التعلم عند الساعاتي اليهودي بسبب نظره الذي لم يكن يؤهله لامتهان هذا العمل.

انخرط أبوغربية في العمل المسلح اعتبار من عام 1934 حيث شكل وأصدقاؤه تنظيما مسلحا سريا ساهم مساهمة فاعلة في إضراب عام 1936م من خلال توزيع النشرات والخطابات على الناس وحثهم على الصمود. كما يروي العديد من العمليات التي نفذها هو وأصدقاؤه في وقت مبكر من حياته كان أهمها قتل قائد شرطة القدس البريطاني (آلن سيكرست) بعد أن أمعن في إذلال أهل فلسطين وامتهان كرامتهم دون سبب حتى أنه اعتدى على بهجت نفسه وضربه لمجرد أنه كان يسير على الطريق عندما مرت سيارته . وهنا قرر أبوغربية وصديقه سامي الأنصاري قتله ووضعوا خطة لهذه العملية إذ انتظروه عند تلة اعتاد أن يعبرها كل جمعة في توقيت معين وأجبراه على التوقف من خلال سيرهما في منتصف الشارع الذي كان يسير عليه بمركبته ومن ثم بدأ أبوغربية وصديقه بإطلاق نار مسدساتهما من نافذة المركبة ومن مسافة قريبة جدا حتى قتل ( سيكرست) وأصيب حارسه الشخصي وفقدا السيطرة على السيارة التي انحدرت إلى قعر الواد وقد أصيب صديق أبوغربية المناضل سامي الأنصاري في هذه العملية واستشهد اثر ذلك. كما شارك في القتال إلى جانب القائد فوزي القاقوجي والذي جاء من سوريا للقتال في فلسطين واصفا شجاعة المقاتلين العرب وبسالتهم في القتال حتى عام 1939 حيث توقفت الثورة نتيجة للوساطة العربية ودخل الجميع في هدنة وهنا انتقل للعمل في الصحافة وكان يغطي جلسات المحكمة التي تتم للعرب واليهود واصفا حجم التحيز والظلم الذي كان يقع على العرب الذين كان يتم الحكم عليهم بالإعدام لأوهن الأسباب ودون دليل قاطع أما اليهود فقد كان يتم التهاون معهم ويسمح لمحاميهم بالترافع والأخذ والرد والاعتراض الأمر الذي لم يكن ينسحب على العرب.

و يحمل أبوغربية في مذكراته وبالأدلة والبراهين الدامغة بريطانيا مسؤولية تهجير الفلسطينيين واغتصاب أراضيهم وما حل بهم من دمار وقتل وتشريد وذلك بناء على وعد بلفور الصادر في 2تشرين الثاني /نوفمبر 1917م والذي تعهدت به بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين والزمت بهذا الوعد من خلال التالي:

  1. تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين.
  2. تزويد اليهود بالسلاح والعتاد وغض الطرف عن جرائمهم في مقابل حصار الفلسطينيين ومصادرة سلاحهم والأحكام الجائرة عليهم بالإعدام لأبسط الأسباب.
  3. المساهمة في تهجير الفلسطينيين عن أراضيهم بالتضيق عليهم والتنكيل بهم.
  4. مصادرة أراضي الفلسطينيين ومنحها لليهود وكذلك منح اليهود الأراضي التي استولت عليها من الحكومة العثمانية.

 

شارك أبوغربية في الحرب اعتبار من عام 1947 وحتى عام 1949 كأحد قادة جيش الجهاد المقدس وأورد تفاصيل العديد من العمليات العسكرية التي جرت على أرض فلسطين ويمكن تلخيص أهم النقاط التالية حول ذلك:

  1. على الرغم من محدودية العدة والعتاد للمقاتلين الفلسطينيين والعرب إلا أنهم قاتلوا بكل شجاعة واقتدار وكانوا قادرين على حسم المعركة لصالحهم لو أن الجيوش العربية ساندتهم.
  2. قاتل الفلسطينيون صفا واحدا ضد الصهاينة بمسلميهم ومسيحيهم وكافة طوائفهم عدى اليهود الذين اصطفوا في النهاية إلى جانب الحركة الصهيونية.
  3. مثل أهل القرى حاضنة شعبية للثوار والجيوش العربية و أمدتهم بالطعام والغذاء وداوت جرحاهم ودعمت صمودهم هذا فضلا عن قتال رجال القرى وشيوخها إلى جانبهم.
  4. لعبة المرأة الفلسطينية دورا بارزا في النضال الفلسطيني سواء من خلال حث الرجال آباء وأبناء وأزواجا على الجهاد والصمود أو بالمشاركة الفعلية في مداواة الجرحى وإعداد الطعام وتهريب السلاح كما أنها ضربت المثال في الصبر والصمود عندما كانت تبلغ باستشهاد ابنها أو زوجها أو أيا من أقربائها.

 

كما يمكن تلخيص الأسباب التالية للهزيمة وفقا لما أورده بهجت أبوغربية في مذكراته:

  1. لم يكن لدى حكام العرب النية الصادقة في القتال وقد وافقوا جميعا على قرار التقسيم ولذلك ألزمو جيوشهم بخطوط التقسيم وضيقوا على جيش الجهاد المقدس ولم يمدوه بالسلاح أما جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي فقد أنعم عليه الملك عبدالله ملك الأردن بلقب باشا مقابل انسحابه وجيشه من القتال. ولابد من الاشارة هنا إلى أن كثيرا من الجنود والقادة العرب خالفوا الأوامر التي جاءتهم وشاركوا في القتال ومنهم من انشق عن جيشه والتحق بجيش الجهاد المقدس.
  2. لم يقاتل الجيش العراقي ووقف متفرجا مشيرا أبوغربية للمقولة التي اشتهرت وقتها ( بما كو أوامر) .
  3. كانت قيادة الجيش الأردني كلها انجليزية وقد لعبت دورا كبيرا في اجهاض أي نصر أو تقدم يحققه العرب.

 

كما يشير أبوغربية إلى أنه بعد ما أصبح واضحا للشعوب والجيوش العربية أن القرار السياسي الذي اتخذه الحكام العرب بعدم القتال والتلاعب بهم لتنفيذ قرار التقسيم بدأت ترتفع الأصوات بتحميل القادة والحكام العرب مسؤولية الهزيمة ووجدت حالة من الحنق بين الجنود على حكامهم وقادتهم الذين كبلوهم وهنا بدأ المسؤولون السياسيون العرب بإطلاق حملة لتخوين الفلسطينيين وتحميلهم مسؤولية الهزيمة باتهامهم بالجبن وبأنهم كانوا جواسيس لليهود و بأنهم باعوا أراضيهم لليهود(( هذا مع العلم أن اليهود كانوا يمتلكوا في فلسطين حتي بدء الانتداب البريطاني على فلسطين 2%من أرض فلسطين وأنهم حتى حرب 1948 لم يمتلكوا من أرض فلسطين سوى من 5%" وقد زادت هذه النسبة بسبب ما منحتهم اياه بريطانيا من أراضي كانت تعود للدولة العثمانية فضلا عن الأراضي التي اشتروها من اقطاعيين غير فلسطينيين)).

ويلخص أبوغربية هذا في القصة التي ذكرها والتي حصلت بينه وبين أحد قادة الجيش العراقي حيث يقول في ص288 من الكتاب: " دعيت إلى (عابود) مع قيادة جيش الجهاد المقدس لمشاهدة ((بروفة)) للمهرجان الرياضي/ فذهبت أنا وخالد الحسيني قائد جيش الجهاد المقدس وابراهيم نسيبة أستاذ الرياضة البدنية ورؤوف درويش، ولما وصلنا كان الجو مطارا فدخلنا إلى (ميس) الضابط حيث عدد من كبار ضباط الجيش العراقي المدعوين وعلى رأسهم الحاج طاهر الزبيدي حاكم نابلس العسكري، الذي أخذ يدير الحديث بيننا مركزا على الانتقاد والشكوى من أهل نابلس الذين على حد قوله لم يتعاونوا معه ومع الجيش العراقي، فلم يعيروه سياراتهم ولم يعطوه البنزين...مما أثار أعصابي ولكني كظمت غيظي. إلا أنه أتبع ذلك بقوله: " ذاك اليوم الجيش العراقي متوجه إلى المعركة ...فد فلاح فلسطيني جاعد يم الطريق وبندقيته في حجره ...ذي يصفق لهم ...ذي قوم روح وياهم...!" وهنا لم أملك إلا أن أفضح كذبه وسوء نيته فقلت: " هل سيادتك قائد عسكري جاء فلسطين ليحارب..؟ لو كنت كذلك لوضعت يدك كحاكم عسكري على وسائل النقل والوقود وكل المستلزمات العسكرية ، وليس من طبيعة الحرب أن يطلب القائد التبرع بما يحتاجه ..! أما ذاك الفلاح إلي كان جاعد يم الطريق، أنا كنت يمه..هذا كان ناطر الجيش تيروح وياه، ولما عدا الجيش وما أخذه وياه ..دار يبتشي!!" ...وبعد انصراف العميد طاهر الزبيدي انفرد بي العقيد محمود مظلوم قائد الجحفل وقال: " عيني هذا الزبيدي من زلام نوري السعيد ..وآني أقولك ايش غرضه ...هذا قبل فترة جمع الضباط القادة وكنت بينهم . وقال هناك تسيب في الجيش العراقي، وعدم اطاعة أوامر والجنود يتذمرون لأنهم لا يقومون بأي عمل عسكري ضد اليهود ، وأن هذا الوضع يحتاج إلى علاج ...وبعد الاستماع إلى آرائنا أمر بأن نعالج الأمر بالقيام بمحاضرات كل في وحدته نهاجم فيها الفلسطينيين على أساس أنهم باعوا أراضيهم ..! ويتجسسون لليهود وغير ذلك".  

 

ويختم أبوغربية مذكراته بالنص التالي:

" عندما صدر وعد بلفور في 2تشرين الثاني /نوفمبر 1917م كان من الصعب أن يتصور العرب أن الجزء الأكبر من فلسطين سيغدو دولة يهودية صهيونية في مدى ثلاثين سنة . إلا أن عرب فلسطين كانوا يشعرون بهذا الخطر . وقد عبروا عنه في مناسبات مختلفة منها ما جاء على لسان الشاعر الشهيد عبر الرحيم محمود في قصيدة ألقاها يوم زيارة ولي العهد السعودي الأمير سعود بن عبد العزيز لفلسطين سنة 1935م حيث قال:

المسجد الأقصى أجئت تزوره                أم جئت من قبل الضياع تودعه

ربما لم نتوقع أن تكون النتيجة بهذا السوء. اذ ان 56.47% من مساحة فلسطين خصصت لليهود . وبموجب قرار التقسيم استولوا عليها بأكملها كما استولوا على 20.93% من الجزء المخصص للعرب، فأصبحت دولتهم تشغل 77.4% من مساحة فلسطين، ولم يبق للعرب سوى21.3% عرفت باسم الضفة الغربية و1.3% لقطاع غزة، مع أن اليهود لم يكونوا يملكون عند بدء الانتداب سنة 1918م سوى 2% من أرض فلسطين. وحتى أيار مايو 1948م لم يملكوا سوى 5.67%.

كما طرد أكثر من 900ألف عربي فلسطيني من أراضيهم وبيوتهم وأصبحوا لاجئين ولم يبق في القسم المحتل بعد انشاء دولة العدو سوى 170 ألف عربي.

انها النكبة حقا، ولكن علينا أن نقول أن عرب فلسطين صمدوا وناضلوا وقاتلوا وضحوا بالغالي والرخيص وقدموا آلاف الشهداء للحيلولة دون وقوع هذه النكبة. إلا أن الامبراطورية البريطانية والولايات المتحدة الأمريكية بل وجميع الدول الغربية ألقت بكل ثقلها وراء الحركة الصهيونية العالمية. كما أن الحكومات العربية كانت خاضعة للسيطرة الأجنبية وتأتمر بأوامرها.

وهنا يعود السؤال المعهود يطرح نفسه مجددا: لماذا لم تقبلوا بأنصاف الحلول كمشروع التقسيم في سنة 1937م والكتاب الأبيض سنة 1939م، وقرار التقسيم في سنة 1947م، ومع أنني أجبت عن هذا السؤال أقول باختصار أننا كنا نعرف حقيقة الأطماع الصهيونية وخططها العدوانية التوسعية بحيث إذا وافقنا على قيام دولة يهودية على جزء من فلسطين فانهم سيملؤونها سلاحا ومهاجرين ويواصلوا عدوانهم التوسعي الاستيطاني بأسرع ما يمكن، ولذلك فضل شعبنا المقاومة لعرقلة هذا التوسع الصهيوني بقدر المستطاع."   


منتدى ثقافي علمي ناطق بالعربية وهو مساحة نتشاركها جميعًا لنتحدث عما يجول في أذهاننا وما نتحدث فيه مع أصدقائنا في ما لا تتطرق له وسائل الإعلام، سواءً كانت فكرة جمعك حولها نقاش مع أصدقائك،.