كتاب :" كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر العربي السوري عام 1920 وتدمير تحالفه الليبرالي الإسلامي التاريخي " الصادر سنة 1920م للمؤرخة إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) التي تعمل أستاذة كرسي محمد فارسي للسلام الإسلامي في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأميركية (بواشنطن) والمختصة بدراسة الشرق الأوسط يقدم صورة غير نمطية للفكر الغربي عن العالم العربي حيث ترى مؤلفة الكتاب أن العرب عرفوا تجربة ديمقراطية مميزة تجسدت في سوريا، وبالضبط في الثامن من مارس/آذار 1920، حيث أصدر البرلمان السوري إعلان الاستقلال باسم الشعوب الناطقة بالعربية القاطنة في سوريا الكبرى (التي تضم اليوم لبنان وسوريا والأردن وفلسطين). حيث انضم العرب في الحرب العالمية الأولى، -والسوريون بالتأكيد من بينهم- إلى الحلفاء في حربهم ضد الدولة العثمانية، كما احتضنوا مبادئ ويلسون للحرية، وكان إعلان استقلال سوريا -حسب رؤية المؤرخة -متوافقا مع قيم المساواة والحرية، وسعت سوريا بذلك إلى كسب مكان لها داخل "المجتمع الدولي" إلى جانب بولندا وتشيكوسلوفاكيا ودول قومية أخرى نالت استقلالها وتمكنت من تأسيس دولة حديثة.
وتدلل إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) على رأيها هذا بإسقاط الضوء على دور الشيخ رشيد رضا ناشر المجلة الإسلامية "المنار"، الذي ترأس البرلمان السوري عام 1920. هذا البرلمان الذي صادق على دستور لـ"ملكية برلمانية مدنية"، وكان معظم نوابه من سياسيي العصر العثماني، ممن دعموا الثورة الدستورية العثمانية عام 1908. وقد عد هذا الدستور محاولة لإحياء الحكومة الدستورية بعد فترة الحكم العسكري الذي قامت به تركيا الفتاة 1913-1918. كما كان هذا الدستور أيضا نسخة مختلفة جذريا عن الدستور العثماني، ويتجلى ذلك في مجموعة من النقاط منها أنه منح سلطة أكبر للهيئة التشريعية في حين قلل سلطة الملك، كما أن سلطات الملك فيصل حينئذ كانت مستمدة من البرلمان السوري ولم تستند إلى شرعية الدم أو الدين.كما ألغى أي ربط بالإسلام باعتباره دينا للدولة أو مصدرا للتشريع، وكان الأمر الملزم للملك فيصل هو احترام "الشرائع الدينية" فقط، وكتب رضا وآخرون في عام 1920 أنهم يسعون إلى المساواة الكاملة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. فضلا عن ذلك، اعتقد رضا أن هناك حاجة إلى تشريع علماني بخصوص الأمور المرتبطة بالمصلحة العامة، وعلى عكس الإسلاميين الذين تلوه لم يكن رضا يعتقد أن الشريعة الإسلامية تشمل جميع مجالات القانون.
ووفقا للكاتبة فقد كان الدستور السوري لعام 1920 أكثر الدساتير ديمقراطية في العالم العربي على الإطلاق؛ من حيث احتوائه على حزمة من الحقوق، والوعود بحماية حق التعبير والتجمع والرأي والتعليم والملكية الخاصة، وتوسيع نطاق الاقتراع ليشمل كل الذكور الذين تبلغ أعمارهم 20 ربيعا فما فوق. وفي هذه التجربة كادت النساء تحصل على حق التصويت، إذ أيّدت أغلبية أعضاء البرلمان حق المرأة في التصويت، لكن المعارضة الشديدة التي أبداها المحافظون أجبرت البرلمان السوري على تأجيل هذه المسألة. وكذلك ساوى بين المسلمين والمسيحيين وبقية الأطياف الدينية؛ ولم يتجلّ ذلك فقط بعدم النص على الإسلام في الدستور على أنه دين للدولة (الدستور كان يوصي بإسلام الملك فقط)، ولكن أيضا من خلال ضمان مقاعد في الهيئات التشريعية لغير المسلمين. وكانت الهيئة التشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية؛ حيث لم يكن من الممكن للملك حل المجلس التشريعي إلا في حالات الطوارئ القصوى، وكان رئيس الوزراء مسؤولا أمام الهيئة التشريعية بدل أن يكون مسؤولا أمام الملك كما تبين الكاتبة بأن الدولة السورية اتسمت بلا مركزية؛ حيث تمتعت فيها المحافظات باستقلالية كبيرة تنتخب مجالسها التشريعية مستقلة عن دمشق
وتخلص إليزابيث ف. تومسون (Elizabeth F. Thompson) أن الاحتلال الفرنسي لدمشق عام 1920 هو المسؤول عن تقويض الدعم الشعبي لليبرالية؛ فقد فقد السوريون بسببه إيمانهم بالليبرالية باعتبارها ضامنا للحقوق العالمية للإنسان. فبعد فرض الانتداب على سوريا ولبنان والعراق وفلسطين وشرق الأردن، أصبحت الليبرالية أيديولوجية النخب التي تعاونت مع البريطانيين والفرنسيين فقط.
وبالتالي تعتقد المؤرخة في كتابها أن رشيد رضا قدد حقق في عشرينيات القرن الـ20 الغاية التي سعى إليها العرب عبر انتفاضاتهم عام 2011؛ المتمثلة في الديمقراطية، و أنجز ذلك بفعل تعاونه مع الفقهاء بدل قمعهم. وفي الواقع، التناقض بين سوريا وتركيا مذهل جدًّا، ففي الوقت الذي لم يعد السوريون ينظرون فيه إلى الإسلام على أنه دين للدولة وفق مقاربة توافقية انتظم فيها الفقهاء في عام 1920، فإن تعامل مصطفى كمال (أتاتورك) مع الإسلام في ظل جمهورية تركيا كان قائما على قمعه وصدامه مع الزعامات الدينية بتركيا.
وترى المؤلفة في كتابها أن الغرب استنكر مجهودات سوريا في تأسيس تجربة ديمقراطية ليبيرالية داخل المنطقة العربية. حيث أجهض تجربة سوريا الديمقراطية الرائدة حينئذ. ولم يدمروا فقط المملكة العربية السورية بوصفها دولة؛ ولكن سعو أيضا إلى تدمير الديمقراطية في المنطقة العربية جمعاء؛ إذ أثبتت الحكومة التي أسّست في دمشق أن العرب تمتعوا بالقدرة التامة على حكم أنفسهم بطريقة ديمقراطية حديثة، وهو ما شكل تهديدا للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية. حيث أن ذلك من شأنه أن يبرهن على أن سبب احتلالهم للعرب والمسلمين (وشعوب آسيا وأفريقيا الأخرى) قائم على فرضية خاطئة مفادها أن غير الأوروبيين ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم وفق منهج ديمقراطي. وعليه تواطأ البريطانيون والفرنسيون بغية رفض مطالب السوريين الرامية إلى امتلاك الحق نفسه والقدرة السياسية ذاتها على غرار التشيك وبولندا ويوغوسلافيا، باعتبارها دولا حصلت على استقلالها في مؤتمر باريس للسلام.
وتؤكد المؤرخة أن السوريين نظروا لأنفسهم على أنهم أناس متحضرون يتمتعون بخبرة سياسية حقيقية كمواطنين داخل السلطنة العثمانية؛ إذ انتُخِب ممثلون لهم في البرلمان العثماني وشغلوا مناصب مهمة ضمن جهاز الحكم والبيروقراطية داخل الدولة العثمانية. وعليه فقد صدموا من نظرة الأوروبيين إليهم، وسعيهم لمحاولة وضعهم تحت نظام انتداب داخل عصبة الأمم، وجعلهم على قدم المساواة مع رعايا الإمبراطورية الألمانية في أفريقيا والمحيط الهادي، الذين لم يعرفوا وجود جهاز دولة من قبل، على عكس السوريين الذي عاشوا داخل دولة حديثة مثل الدولة العثمانية.كما تحاجج المؤلفة في كتابها على أن البريطانيين والفرنسيين لجؤوا إلى مقاربة عنصرية لتسويغ احتلالهم سوريا الكبرى والعراق بعد الحرب العالمية الأولى. لقد جادلوا بأن العرب المسلمين اتسموا بالتعصب الديني، وأن ذلك تجلى في استباحتهم لدماء المسيحيين العرب على غرار مذبحة الأتراك ضد المسيحيين الأرمن. كانت مساعي الملك فيصل ترمي إلى دحض هذا الادّعاء في باريس، مؤكدا أن المسلمين والمسيحيين العرب واليهود تعايشوا بسلام مدة طويلة.
لقد برهنت المؤرخة في كتابها من خلال ما أوردته من أدلة دامغة على أن ما حدث عام 1920 كان حقا "لحظة ديمقراطية" في دمشق؛ تظاهرت فيها حشود شعبية غفيرة مؤيدة للبرلمان السوري وإعلانه الاستقلال. إذ تمتع التيار الليبرالي بقاعدة دعم شعبية واسعة، ووعد البرلمان السوري بوضع دستور يمكن اعتباره "سلاحا مدنيا" ضد الاستعمار. وقد أثبت السوريون بذلك جدارتهم وتحضرهم لالتجائهم إلى المقاربة التشريعية بدل استخدامهم السلاح (وهي استراتيجية جيدة بحكم أن السوريين لم يملكوا جيشا على عكس مصطفى كمال). وزعم المؤتمر أن تشكيل حكومة دستورية سيكسب سوريا حقها الدولي في تقرير المصير وامتلاكها عضوية بين الدول المتحضرة التي شكلت عصبة الأمم.
وتصل إليزابيث ف. تومسون في نهاية كتابتها إلى نتيجة نهائية مفادها أن تدمير التجربة الديمقراطية في سوريا عام 1920 وكذلك تعاون النخب الليبرالية السورية مع الفرنسيين والبريطانيين هو ما مهد لتشكل الجماعات السياسية الإسلامية داخل شرائح واسعة في سوريا؛ حيث أدارت الليبرالية النخبوية ظهرها للمساواة والحقوق الاجتماعية، في حين قام القادة الإسلاميون الذين دعموا مؤتمر 1920 بمعارضة النخب العلمانية في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته.