جمعتني خلال رمضان لقاءات مع عدد من الجالية العربية في بريطانيا ضمن موائد رمضانية لعدد من المنتديات والمؤسسات العربية التي تدعو باستمرار الإعلاميين والصحافيين لحضور إفطاراتها السنوية،والحقيقة أنها كانت فرصة ممتازة للحديث مع الجالية والتعرف على وجوه جديدة فيها.
في واحدة من تلك الإفطارات تحدثت مع شاب كانت لهجته تبدو خليجية، سألته من أي بلد هو فقال أنه من الكويت، فقلت له إذا أنت هنا للدراسة، أجاب بالنفي موضحا أنه لاجئ هارب من الكويت التي أحبها، فقلت له لم أفهم كيف؟ ليبدأ هنا برواية قصة لجوئه التي عبر فيها ١٤ دولة وقاسى الويلات وتعرض للابتزاز من المهربين وتجار البشر، هو من" البدون" أي لا يحمل الجنسية الكويتية رغم اقامته وأهله فيها لأكثر من خمسين عاما!! إنها مأساة حقيقية.
الحقيقة أن قصة هذا الشاب إضافة لقصص أخرى استمعت إليها فضلا عن خبرتي الشخصية في مسألة أن تكون "بلا جنسية"Stateless” “تدفع المرء للتوقف والسؤال: كيف تفكر دولنا العربية؟ وماهي قيمة تلك الورقة "جواز السفر" التي تحرم منها عربا عاشوا فيها عشرات السنين وتدفعهم لانفاق سنوات من عمرهم في الغربة للحصول عليها؟، وتجعلهم يركبون قوارب الموت ويلقون بأنفسهم وأطفالهم في البحر هربا من أهوال التمييز التي يعانوها في بلدانهم العربية بحثا عن دفئ في الغرب قارص البرودة، فضلا عن آلاف من اللاجئين الفارين من الحروب والسجون والتنكيل السياسي والمطارة لمجرد اختلافهم في الرأي مع الحكام.
إنها ودون مجاملة دول تحولت لمقابر طاردة للعرب، كيف يمكن فهم أن يقضى المرء خمس سنوات أو أقل ويتحصل عقبها على الجواز البريطاني أو الكندي أو الأسترالي فيما تمضي أجيال كاملة من من يسمون" البدون" دون أن تلتفت لهم تلك الدول وتمنحهم جنسيتها أو تجد حلا لمشكلتهم، كذلك كيف يمكن أن تغلق الدول العربية أبوابها أمام اللاجئين العرب فيما تنتقد ازدواجية معايير الغرب في التعامل معهم؟.
أسهل شيء هو جلد الضحية واتهام " البدون" أو " اللاجئين" بأنهم عبىء اقتصادي أو تهديد أمني محتمل،فيما الحقيقة أن التهديد الحقيقي هو الاستمرار في تجاهل حقوقهم وحقوق الانسان عموما في عالمنا العربي، نحن أولى بالالتزام بها كما أننا نملك حضارة عربية وإسلامية يقوم فيها الاعتقاد و الدين على اعتبار أننا أمة واحدة، العربي فيها أخ للعربي، والمسلم أخ للمسلم لا يظلمة ولا يسلمه ،لا تمييز بين عربي وعجمي في ديننا إلا بالتقوى، ولا حدود بين الأمة، فبلاد العرب يفترض أنها "أوطاني من الشام لبغدان".
إن التحدث مع الجالية العربية في بريطانيا حيث أقيم، يكشف لك حجم المآسي التي شهدها كثير من أفرادها ودفعتهم تلك المظالم للفرار للمملكة المتحدة، إما بحثا عن جنسية، أو هربا من نظام سياسي باطش، أو بحثا عن حياة اقتصادية أفضل في ظل الفقر والغلاء الفاحش وانعدام فرص العمل في كثير من بلداننا، أو أخيرا وهي فئة كبيرة ومنسية تلك العقول العربية والكفاءات الفذة التي لم تجد في بلدانها فرصة للإبداع فحملت كتبها وأبحاثها ودراساتها وجاءت للعمل في أرقى المستشفيات البريطانية، والشركات، والمؤسسات، إنهم فقدان كبير لبلداننا، ونزيف مستمر.
كنت ذات مرة في مستشفى أقف مع صديق عزيز تعرض أخاه لنزيف في الدماغ اضطر على إثرها للدخول للعناية الفائقة، وكان ينبغي أن يتخذ الأطباء الإنجليز قرارا طبيا ملحا بخصوص حالته، وقالوا له أنهم لن يستطيعوا اتخاذه إلا بعد استدعاء كبير الاستشاريين في مجال الدماغ والأعصاب، وعندما أتى ذلك الأخصائي سمعنا نتحدث اللغة العربية ففجأة قال بالعربية أنتم عرب؟ قلنا نعم، لنكتشف أنه عربي!!.
العرب مبدعون والدليل على ذلك أنهم يبدعون عندما تتوفر لهم الفرص، والجالية العربية في بريطانيا متنوعة ومكتظة بالخبرات، كما أن تأثيرها آخذ بالتصاعد، وتقديري بأن الجيل الأول والثاني الذي جاء في ظروف غير طبيعية وانشغل بترتيب حياته الجديدة مصحوبا برغبة دائمة بالعودة، هو جيل مختلف عن الأجيال الجديدة التي ولدت في بريطانيا ودرست في مدارسها، والتي يعول عليها في إحداث فرق في التأثير بشكل أكبر على بريطانيا وسياساتها تجاه قضايا العربية، وتحديدا في الملف الفلسطيني وهو الاستثمار الأهم .
أختم من حيث بدأت، إذ أعتقد أنه لا يمكن اصلاح ذلك العطب في منطقتنا العربية، دون التحرر من العقلية العنصرية في تعامل العرب مع بعضهم البعض، والحقيقة أن الشعوب بريئة من ذلك وإنما تتحمل وزره الحكومات والأنظمة التي تشرعن لقوانين عنصرية، وتصادر حقوق الانسان، وتسمح بخطاب إعلامي منفلت، كل ذلك علاجه يكون عبر النضال من أجل حكومات منتخبة تمثل شعوبها، عندها ستنتهي كل مشاكلنا، مشاكل " البدون" وغيرهم، وستنتفي أسباب الهجرة واللجوء والموت غير المبرر، وستعود خيرات العرب لهم، وليس نهبا للخارج.