التفكير الحر حق لكل مواطن عربي

كتب

" العروش والجيوش : كذلك انفجر الصراع في فلسطين(قراءة في يوميات الحرب) محمد حسنين هيكل -الجزء الأول

" ...فالأمم الكبيرة تحيا لكي تتذكر والأصح أنها تتذكر لكي تحيا ، لأن النسيان هو الموت أو درجة من درجاته، في حين أن التذكر يقظة ، و اليقظة حالة من عودة الوعي، قد تكون تمهيدا لفكر  ربما يتحول لنية فعل، ثم إلى فعل إذا استطاع أن يرتب لنفسه موعداً مع العقل والإرادة في يوم قريب أو بعيد ، بمثل ما فعل المشروع الصهيوني على امتداد قرن كامل : عاش نصفه مع الوعد ، ونصفه الآخر مع تحقيق الوعد!"

بهذه الكلمات استهل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل كتابه الواقع في جزئين والذي حمل الجزء الأول منه عنوان " العروش والجيوش : كذلك انفجر الصراع في فلسطين1948-1998(قراءة في يوميات الحرب)، أما الجزء الثاني فقد حمل عنوان " العروش والجيوش : أزمة العروش صدمة الجيوش( قراءة متصلة في يوميات الحرب (فلسطين 1948) .

وفي هذا الملخص سنتحدث عن الجزء الأول من الكتاب والذي وزعه كاتبه على قسمين هما :   

القسم الأول وحمل عنوان ((1948 ميادين السياسة قبل ميادين القتال))  و حاول هيكل فيه أن يشرح ما هي الأوضاع السياسية للساحة قبل قيام حرب فلسطين، كما أنه تناول الأسباب التي دفعت الحكام العرب للدخول في هذه الحرب، سواء كانت هذه الأسباب أسبابًا ظاهرةً أم خفية.

والقسم الثاني وحمل عنوان ((مايو 1948 : دور الجيوش بعد سباق العروش " يوميات الحرب" ))   يستعرض فيه هيكل صور من يوميات الحرب الخاصة بالجيش المصري، وما قام به الجيش المصري خاصة وقامت به الجيوش العربية و المجاهدون الفلسطينيون، والعرب وجماعة الإخوان المسلمين من بطولات وتضحيات كبيرة مع أول بدايات الحرب فى شهر مايو عام 1948م إلى شهر أكتوبر من العام نفسه حتى قيام الهدنة الثانية.

صدرت الطبعة الأولى من الجزء الأول من الكتاب عن دار الشروق عام 1998م في حين صدرت الطبعة الأولى من الجزء الثاني منه عن نفس الدار في فبراير 2000م. ويقع الجزء الأول من الكتاب في 324 صفحة من القطع المتوسط ، ويقع الجزء الثاني منه في 568 صفحة من القطع المتوسط.

ما يميز هذا الكتاب عن غيره من كتب هيكل التي تناول فيها الحروب تشخيصا وتحليلا وتفسيرا مثل  كتابه عن حرب 1967م والذي كان بعنوان " الانفجار 1967: حرب الثلاثين سنة"، وكتابه عن حرب 1973م وكان بعنوان " أكتوبر 73 : السلاح والسياسة"،  وحتى كتابه عن حرب الخليج والذي كان بعنوان " حرب الخليج أوهام القوة والنصر" ، أقول إن ما يميز هذا الكتاب عن الكتب السابقة أنه يعد سجلا تاريخيا مهما حيث يحاول فيه الكاتب وضع القارئ في ميدان القتال حتى لكأنه يشتم رائحة الدم والبارود ويستمع إلى هرج الجند والقادة وأزيز الطائرات وضجيج المجنزرات وصولا إلى أنين المصابين والثكلى ، وذلك كله في عرض شيق لكنه بحاجة إلى قدر كبير من الانتباه واليقظة في قراءة سلسلة طويلة تبدو غير مترابطة من المراسلات الحربية بين القادة والجنود ضمن هيكل صورة من نسخها الأصلية في هذا الكتاب .

ولكي يهيئ الكاتب القارئ للتعاطي مع هذا الكم الكبير من الوثائق سجل لملاحظة التالية في بداية الكتاب " هذا الكتاب –بكل ما يحتويه- ليس تاريخا للصراع العربي الإسرائيلي وليس عودة إلى أصوله وجذوره ، كما أنه ليس متابعة أو تحليلا لمساره الطويل والدامي ...إنما هو التفاتة مهمة وقد تكون ضرورية إلى لحظة الخلق الأولى ، عندما وقع الانفجار وتمددت كتلته وبدأ زمانه !"

ومن ثم ينتقل الكاتب وفي نفس السياق ، سياق تأهيل القارئ لمادة الكتاب الكثيفة ولكيفية التعامل معها وكأنه يضع دليل المستخدم ( الكتالوج)  بين يدي القارئ ويزوده بالمفاتيح اللازمة للاستفادة من مادة الكتاب بالدرجة القصوى خشية منه أن يغرق القارئ وسط كم كبير من الوثائق التي يربطها خيط رفيع أو عنوان عريض هو " يوميات الحرب" فيتوه في بحر لجي من الألفاظ التي نظمت على شكل شيفرات عسكرية لا تكمن أهميتها في قراءة معناها الظاهر وإنما في قراءة ايحاءاتها الكامنة بين السطور لتضع القارئ في أجواء الحرب المتلبدة بالشكوك وعدم اليقين الذي كان يتنفسه الجندي العربي المتشبث بسلاحه والمؤمن بقضيته والممتلئ بالعزم والعزيمة فوق أرض يعرفها و ينكرها.

فيقول هيكل عن ذلك في التوطئة للكتاب:

" هذا الكتاب – بعد هذه المقدمة تمهد له وتضعه في سياقه من مجرى الحوادث – مستند تاريخي نادر  يروي بغير  تزوير أو تزيق لمحات من الحقيقة عن أيام حاسمة في التاريخ العربي المعاصر هي تلك الأيام التي شهدت قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين في مثل هذا الوقت تماما من مايو 1948م... ان هذا الكتاب، تصوير دقيق للعمل العربي في حرب فلسطين في تلك الظروف – من نصف قرن- سنة 1948م، - هو بمقصده الأساسي محاولة في مقاومة النسيان وفي تطبيق عملي لفكرة أن الأمم تتذكر لتحيا، وتتذكر ولعلها تتنبه ، ثم تلوح أمامها -ربما فرصة- موعد مع العقل والإرادة ممكنٌ ومرغوب فيه.

وفي الوقت نفسه فإن هذا الكتاب سجل تاريخي من أكمل مثال لأنه سجل أمين لحدث كبير ، كتبه شهوده بأنفسهم لأن مهمتهم كانت أن يكتبوا، ثم إنهم كتبوه بالتزامن مع جريان  وقائعه لأن وظيفتهم كانت أن يسابقوا هذه الوقائع.

إن (يومية الحرب) هي في العادة أكمل مستند تاريخي لصورة ميدان القتال، والخلفيات السياسية الواصلة إليه ثم الاعتبارات الشخصية والإنسانية المتسربة بالضرورة إلى المواقف والتصرفات .

وفي الأصول المعمول بها في جيوش العالم المتمدين فإن كل قيادة لها ((يومية حرب))تسجل فيها التوجيهات والقرارات إلى جانب الإشارات الواردة من المواقع بما يحدث ويستجد من التطورات والنتائج.

وفي العادة فإن كل تشكيل عسكري له (( يومية الحرب)) هي سجله أو مستنده فيما يتحدد له من دور في الخطط ويتحمل من مسؤولية في تنفيذها، لكن المستند الأكبر بالطبع هو ((يومية الحرب)) القيادة العامة لأنها مركز التحكم والرصد ، وفيها تتجمع كل الأسئلة والأجوبة، وعلى صفحاتها تتحول النقط إلى خطوط ، والخطوط إلى لوحات عريضة . ثم إن الخلفيات السياسية لا تظهر  في ((يومية الحرب)) عند التشكيلات الميدانية الصغيرة أو الفرعية ، لكنها في ((يومية حرب)) القيادة العامة موجودة إلى درجة تتحول بها لوحات النقط والخطوط إلى صور معبرة بالضوء والظل معبرة وكاشفة!"   

في بداية الجزء الأول من الكتاب سجل هيكل الملاحظة التالية تحت عنوان ((غروب القرن العشرين))

" كان قيام دولة إسرائيل وسط العالم العربي، وفي قلبه هو الحدث الأكبر بالنسبة لشعوب الأمة وفوق أرضها على امتداد واتصال القرن العشرين .

إن الأمة قضت النصف الأول من ذلك القرن  تحاول بكل وسائلها اعتراض ومنع قيام دولة إسرائيل، ثم أن الأمة قضت نصفه الآخر تحاول وبكل طاقاتها حصر هذه الدولة وضبط آثار وتداعيات قيامها.

ولقد كانت الأمة العربية على حق، لكنه حق افتقد الوعي أحيانا، وافتقد الارادة أحيانا ، وافتقد كلا من الوعي والإرادة في أحيان أخرى.

وإذا كان غروب القرن العشرين قد حل والطوق العربي من حول إسرائيل مكسور، والآثار والتداعيات المترتبة على ذلك فوضى في كل بقعة وركن؛ فإن التاريخ لم يصل إلى نهايته بنهاية قرن ، مع أن هنالك شرطين لازمين كي لا يتوقف الزمن العربي: الشرط الأول استعادة الوعي بوسائط المعرفة، والشرط الثاني استعادة الإرادة بوسائل العقل.     

      ومن ثم ينطلق الكاتب في عرض يوميات الحرب بشكل متسلسلا تسلسلا زمنيا لا يقتصر فيه على التاريخ فقط وإنما أيضا على الوقت بالساعة والدقيقة بادئا من المراسلة التي كان عنوانها (ساعة الصفر) .

لكنه لا يقتصر على عرض الرسالة وإنما يقرنها بملاحظات يبديها على هذه اليوميات تعمل في النهاية وبأسلوب ذكي على توجيه القارئ إلى استنتاجات يسعى إلى أن يوصل القارئ لها دون تكلف أو توجيه مباشر.

ويتحول الكاتب بعد ذلك إلى تصنيف الوثائق في أبواب يحاول من خلالها تنظيم المشهد العام وكأنه يرشد القارئ إلى زوايا النظر  التي يفترض أن يبدأ بها تأمل اللوحة العامة للأحداث وتلك التي عليه أن  ينتهي عندها ليساعده على إدراك أحداث الحرب الجزئية في صورتها الكلية في عملية أشبه بلصق مجموعة من القصاصات إلى بعضها البعض للوصول إلى اللوحة العامة،  وهنا يبدأ بالباب الأول والذي حمل عنوان " ميادين السياسة قبل ميادين القتال.

ميادين السياسة قبل ميادين القتال

وفي هذا الباب يحاول الكاتب أن يزود القارئ بمعلومات عن الوضع السياسي الذي كان قائما قبل اندلاع الحرب لمحاولة دفعه إلى تفسيرات معينة بحيث لا يتناول الأحداث في سياقها العملي على أرض الواقع فقط وإنما يحاكم هذه الأحداث و التفاعلات  وفقا لهذه الخلفية وهنا ينتقي هيكل كلماته وعناوينه الفرعية بعناية .

فقد استهل هذا الباب بعنوان صادم هو ( ثلاث ملوك ونصف ) و الثلاثة ملوك هم: الملك فاروق على عرش مصر، والملك عبد العزيز على عرش الرياض، والملك فيصل على عرش بغداد، أما الأخير فقد كان العرش الهاشمي الصغير –وفقا لهيكل- في الأردن ، وقد استعرض الكاتب أسباب ودوافع كل منهم للاشتراك في الحرب، وكذلك التناقضات والمشاكل والشكوك بل والضغائن التي كانت بينهم والتي ستترجم لاحقا في ميدان القتال.

وتحت عنوان(كل الملوك حائرون) مر الكاتب على هواجس كل ملك من الملوك الذين شاركوا في الحرب وكيف اتخذوا قرار المشاركة تحت وطأة الظنون والمطامع التي أخفاها كل منهم عن حليفة، ودفعتهم إلى اتخاذ مواقف متناقضة والتي جعلها الكاتب عنوان فقرته التالية وفصل فيها أسباب التناقض ودوافعه.

ويتناول هيكل موقف الملك عبدالله ملك الأردن بالتفصيل تحت عنوان (حكاية ملك) حيث يسقط الضوء على جوانب معقدة من شخصية الملك والذي يرى الكاتب أنها تكونت من مزيج مدهش من عناصر قابلة لتفاعلات خطرة بينها على النحو التالي:

  • مرارة مترسبة إلى الأعماق، وجروح غائرة في هذه الأعماق لم تندمل بعد رغم مرور السنين.
  • طموح لا يلتزم بحدود لأنه يريد تعويض فرصة لمعت في حياته ثم انطفأت بسرعة تاركة في حلقه طعم الرماد.
  • شك غلاب يطال كل الأشخاص وكل المواقف لأن صاحبه يشعر أن الظروف الآن – كما تبدو له- مهيأة لخطط كبيرة ، لكن هناك من يترصد ويتربص إما  عن كره وإما عن حسد))!

   ويكشف عن الدوافع البرجماتية للملك من دخوله الحرب فضلا عن حرصة على علاقات طيبة مع باقي الملوك خاصة الملك فاروق في مصر ، ومن ثم ينتقل للحديث عن المشهد العالم للملوك جميعا تحت عنوان (سباق الملوك) .

ويمضي الكتاب في محطاته التي حملت عناوين فرعية؛ فتحت عنوان ((السر الأول)) تحدث هيكل  عن السر وراء تصور الملك فاروق أنه قادر على التدخل بجيشه النظامي في فلسطين وكيف بنى الملك حساباته؟

ويرى هيكل هنا بأن مرد هذا إلى أن هناك من أقنع فاروق بأنه في حال اندلاع الحرب فإن الجيش الأردني هو من سيتحمل العبء الأكبر من القتال وذلك بالاعتماد على الشواهد التالية:

  1. أنه في حال نشوب المعارك فإن القوات اليهودية سيكون همها الأكبر الدفاع عن المثلث الحيوي الذي تمتد خطوطه من القدس الجديدة إلى تل آبيب  ، ومن القدس الجديدة إلى حيفا، ومن حيفا إلى تل آبيب. والجيش الأردني هو الأقرب لهذه المناطق.
  2. الفيلق العربي لديه إمكانات عسكرية لم تتوافر لأي جيش عربي غيره ؛ فقد عمل الإنجليز على تدريبه، و تأهيليه وتسليحه كما أنه شارك في حرب حقيقية في سوريا ضد الجيش الفرنسي، كما قام بغزو العراق لإسقاط ثورة رشيد علي الكيلاني لصالح العرش الهاشمي هناك ، وعليه فإن الجيش الأردني والذي اعتاد على الضبط والربط قادر على خوض غمار الحرب وحده.
  3. أن مشاعر الملك عبدالله تجاه الملك فاروق كما أبداها كانت ودية ولا تدفع لتشكك فيها.

كما كتب هيكل تحت عنوان السر الثاني والمقصود هنا السر الثاني الذي وقف وراء قرار الملك فاروق بالمشاركة في حرب 1948م و هو أنه اعتقد أن الإنجليز ولأسباب عديدة فصلها  سيسمحون للعرب بتأديب اليهود إلى حد ما!

 

 

 

 

 

 


منتدى ثقافي علمي ناطق بالعربية وهو مساحة نتشاركها جميعًا لنتحدث عما يجول في أذهاننا وما نتحدث فيه مع أصدقائنا في ما لا تتطرق له وسائل الإعلام، سواءً كانت فكرة جمعك حولها نقاش مع أصدقائك،.