هذا الكتاب هو الجزء الثاني من الثنائية التي خصصها هيكل لمناقشة وتحليل ما حدث في حرب فلسطين عام 1948م وكنا قد قدمنا صورة عامة للجزء الأول من الكتاب والذي كان عنوانه "العروش والجيوش : كذلك انفجر الصراع في فلسطين1948-1998(قراءة في يوميات الحرب)" وقد بينا أن الكتاب ؛ وبسبب ما ورد فيه من صور عن مراسلات أصلية لـ (يوميات الحرب) يعد وثيقة تاريخية مهمة ذات قيمة كبيرة لمن أراد أن يدرس أحداث الحرب وتطوراتها الميدانية لاستخلاص العبر وفهم مآلات الأمور هذا بالإضافة إلى كاتِبِهِ الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل والذي حاول إعطاء صورة على قدر من الموضوعية لميدان القتال.
الكِتاب صادر عن دار الشروق وقد ظهرت النسخة الأولى منه في فبراير عام 2000م، ويقع في 565 صفحة من القطع المتوسط وزعت مادته على جزئين أساسيين .
الجزء الأول :وقد تضمن سبعة عشر عنوانا فرعيا هي : المشروعات ...والرجال، ضباب السياسة على ميدان القتال ، آمال ضائعة في باريس، العدو الرئيسي الآن مصر، الاستراتيجية الغائبة، السلاح الإسرائيلي، أحوال مصرية ، شواغل مصرية، درجات من التصاعد ، مثلث النقب، الفالوجة، خطة من عمان، الرصاص في القاهرة، غروب إمبراطورية، وفجر إمبراطورية جديدة ، الخرائط تتغير ، الطوفان.
الجزء الثاني: وجاء تحت عنوان : "18 أكتوبر 1948 : مصر من بوابة النقب إلى باب القرن الواحد والعشرين" وقد تضمن العناوين التالية : يوميات الحرب، مرحلة فك أضلاع مثلث النقب، مرحلة الفالوجة : حصارها ومحاولة إنقاذ قواتها، مرحلة الخطة حوريف.
وقد استهل هيكل الجزء الثاني من كتابه بالكلمات التالية التي وضح فيها أهم الفروقات بين الجزء الأول والثاني من الكتاب حيث يقول:" ...وهنا يختلف ((الجزء الأول)) من كتاب ((العروش والجيوش)) عن الجزء الثاني (هذه الصفحات).
- يختلف في أن السياسة المصرية انتقلت من صراع ثنائي مع بريطانيا معروف ومألوف إلى تحدي صراعات طارئة من نوع معقد ومركب وأشد عنفا.
- ويختلف في أن تلك الرسالة بلغة الرموز فوق قصور الملك (فاروق) لم تكن لها غير ترجمة واحدة بلغة السياسة هي أن النقطة الحرجة في الصراع منذ تلك اللحظة لم تعد فلسطين وإنما أصبحت مصر : هويتها ، واختياراتها ، ودورها في محيطها.
- ويختلف في أنه إذا كان التحدي مسألة هوية واختيار و دور ؛ إذاً فإن دلالات الرموز تصبح متجاوزة للحظة الانذار، الغارات الجوية بالطائرات، ومسافرة في الزمن إلى أبعد من القصور الملكية ، وإلى أخطر من رسالة يوجهها رئيس وزراء دولة إسرائيل المحدثة في الشرق الأوسط منذ شهور ، إلى ملك مصر وهو البلد الراسخ في المنطقة منذ فجر التاريخ،،،"
وكما هو في الجزء الأول من الكتاب بدأ الكاتب كتابه بتوطئة أشبه بدليل المستخدم لتكون خارطة القارئ في قراءة مادة الكتاب وسلوك طرقه الوعرة نحو الفهم وصولا إلى مساحة الفكرة المطلوبة وهي مساحة رحبة تتسع للكثير من التوقعات، والتأويلات ، وهنا يقول هيكل:" كتاب ((العروش والجيوش))الذي صدر الجزء الأول منه خريف سنة 1998 موضوعه لحظة الانفجار الكبرى في الصراع العربي الإسرائيلي وعندما ((تمددت كتلة ، وبدأ زمانها))....!
...وعند بدء العمليات وفقا ليومية الحرب كانت فاتحة الإشارات من القوات المصرية (أنها تهاجم مستعمرة الدنجور) على خط الحدود الدولي بين مصر وفلسطين تحت الانتداب البريطاني....وفي الموضوع الذي توقفت عنده صفحات ذلك الجزء الأول-من ((العروش والجيوش)) وهو 18 أكتوبر 1948 – فإن الإشارة الأخيرة ذلك اليوم كانت تسجل بلاغا عن غارات قامت بها الطائرات العسكرية الإسرائيلية على القصور الملكية في القاهرة : قصر ((عابدين)) المقر الرسمي للملك ، وقصر ((القبة)) السكن العائلي له.
ويسترسل هيكل في نفس السياق وبعد أن يستعرض العديد من الوقائع والتي من بينها تغير القائد العام للقوات في فلسطين فيقول:"إن المسافة في الزمن بين إشارة يوم 15 مايو ((أن القوات تهاجم الدنجور )) – وإشارة يوم 18 أكتوبر (( أن الطائرات الإسرائيلية أغارت على قصري عابدين والقبة))- مسافة بمقياس الساعات قصيرة، لكنها بمقياس الحقائق هائلة.!"
يعتقد هيكل أن الصراع بين العرب والصهاينة في حقيقته صراع بين مشروعين طموحين وهما: المشروع القومي العربي، والمشروع اليهودي الصهيوني. " أولهما يحلم بوحدة أمة، والثاني يحلم بإنشاء دولة"، وأن الصدام بين المشروعين كان حتميا، وأن جميع المعطيات تعطي الأفضلية لمشروع الأمة الواحدة التي تمتلك من مقومات الوحدة ما يفوق ما تملكه من عوامل تشرذمها ، أما المشروع الآخر فهو قائم على الوهم والخرافة التي تقف وراء ادعاءات تنقضها الوقائع القائمة على الأرض فضلا عن التاريخ.
ويرى الكاتب بأن المشروع الثاني على قدر وهنه وتهافته وضعفه إلا أنه التقى مع مصالح ومطامع دول قوية قادرة على أن تصنع منه حقيقة ، في حين أن المشروع الأول اصطدم بمصالح شخصية ومطامع فردية جعلت منه وهما وحولته إلى سراب، وهنا يقول هيكل: "ومن اللافت للنظر أن رئيس وزراء إسرائيل تلك الأيام وهو ((دافيد بن غوريون)) لمح المأزق الذي يواجهه المشروع العربي بينما هو يدرس تصرفات وتحركات الرجال الذين قدر لهم أن يلتقوا باللحظة الحاسمة على الناحية العربية من الصراع عام 1948 ، وكان تقديره مبكرا أن اللحظة ستفلت من أيدي هؤلاء الرجال ولن يمسك بها أحدهم "
وهنا يكشف الكتاب عن التقارير السرية اليهودية و التي أعدت لتقدير موقف الجبهة العربية في القتال حيث خلصت هذه التقارير إلى أنه في المرحلة الأولى من القتال سيكون القادة العرب موحدين مع بعضهم البعض إلا أنه ومع تواصل القتال فإن هذه الوحدة ستتبدد بتبدد الثقة بينهم فلكل منهم مطامعه وطموحه.
ويعرج هيكل على العديد من المواقف التي تعكس انعدام الثقة بين القادة العرب بعضهم البعض وصولا إلى تبادل الاتهامات بالخيانة و يذكر أن ((بن غوريون)) تلقى رسالة من ((غلوب باشا)) القائد العام للجيش الأردني وقتها تحرضه على توجيه ضربة قاسمة للجيش المصري قبل فوات الأوان وأن إسرائيل تمكنت من الحصول على ضمانات للقيام بذلك بحيث وجهت قوتها العسكرية باتجاه الجبهة المصرية بعد أن سحبت أعدادا كبيرة منها من باقي الجبهات.
ويوضح الكاتب أهداف الملوك العرب من دخول حرب فلسطين على النحو التالي: "
- الملك عبدالله ملك الأردن –مثلا- كان يعرف أنه داخل ليحصل لنفسه ويضم إلى ملكه ذلك الجزء المخصص للعرب من قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين (1947) (دولة يهودية تحصل على 51% من الأرض ودولة فلسطينية تحصل على 49% من الأرض).
- الملك فيصل ملك العراق أو (الوصي عليه) كان يعرف أنه يرسل جيشه إلى فلسطين لأن شعبه ينادي ويلح على نجدتها، ثم إن العرش العراقي يفضل أن يكون قريبا مما يجري حتى لا يحدث في غيابه ما يندم عليه مستقبلا.
- الملك عبد العزيز آل سعود –مثلا- لعب دورا رئيسيا في التنبيه إلى مطامع الملك (عبدالله) في فلسطين من خشيته أن يوسع (الهاشميون) أملاكهم بما ينتقص من قدره، وبما يمكن أن يضيف إلى مكانتهم وهم خصومه ، وبما يظهرهم حماة للمقدسات الإسلامية في القدس ويضعهم في موقع مقارب لموضعه إزاء المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة.
- الملك فاروق – خلافا مع معظم أركان حكمه وبينهم رئيس وزرائه- بعث بجيشه إلى فلسطين لمنع الهاشميين من أن يصبحوا القوة الملكية الأكبر في الشرق، وهو في ذلك أيضا مع مشاعر شعبية تداخلت مع نزعات شخصية."
يتم الانتقال بعد ذلك للحديث عن استهداف الجيش المصري وحصار الفلوجة وصمود القوات المصرية فيها واضطرار الجيش المصري للانسحاب إلى غزة مع ظهور تصدع كبير في الجبهة المصرية.
وتأخذنا الأحداث إلى اللحظة التي يرى فيها الكاتب أن شمس الإمبراطورية البريطانية غابت فيها ليس فقط عن منطقة الشرق الأوسط فقط وإنما عن العالم ليبزغ بدلا منها فجر إمبراطورية جديدة وهي الإمبراطورية الأمريكية والتي آلت إليها تركت الإمبراطورية الآفلة والتي قدمت نفسها على أنها الطرف الأقوى في المنطقة الذي يمسك وحده بمفاتيحها.
وتحت عنوان الخرائط تتغير وفي سياق متصل كتب هيكل: "عندما توقف القتال، كانت الخرائط كلها تتغير...تغيرت الخريطة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط؛ فقد استطاع المشروع الصهيوني أن يقيم دولته المأمولة وأن يفسح لها بالقوة المسلحة موقعاً تستقر فيه، وتبني عليه قاعدة قوة تعزز وجودها، وأكثر من ذلك تُحوِل قاعدة القوة إلى قاعدة تهديد تقدر على تحقيق غرضين رئيسيين: أولهما ردع المحيط العربي حول إسرائيل من أن يفكر أو حتى يحلم بعودة الأمور إلى ما كانت عليه، وثانيهما توفير الفرص الملائمة للتوسع ولدفع حدود الدولة كلما أمكن ذلك إلى ما وراء الخطوط التي توقف عندها القتال، ومن هذا المنطق فإن ( دافيد بن جوريون) رفض بحث وضع دستور للدولة لأن مثل ذلك الدستور ولأي دولة مطالب بأن يحدد رقعتها الجغرافية بينما رأى (بن جوريون) أنه(( لسنوات طويلة قادمة فإن حدود الدولة هي المسافة التي يستطيع أن يصل إليها السلاح الإسرائيلي))
ومن ثم يستدرك الكاتب فيقول:" لكن ما هو أهم من الخريطة الإقليمية التي تغيرت كان ما طرأ على الخريطة العالمية من تغيير، فقد كان ذلك التغيير في الخريطة العالمية بمثابة ستار ينزاح عن مرحلة جديدة من التاريخ الدولي المعاصر هي تلك التي أصطلح على تسميتها بمرحلة الحرب الباردة."
وينتقل الكِتاب بعد ذلك للحديث عن الصراع السوفيتي الأمريكي حيث رسخت الولايات المتحدة الأمريكية مكانتها كقائدة للعالم المتحضر ومنافحة عنه بعد خروج جميع الأطراف من الحرب العالمية الثانية إما مهزومة أو كما يقال ( منتصرة انتصاراً بطعم الهزيمة) وكان الخصم هنا هو الاتحاد السوفيتي ممثلا للفكر الشيوعي المناهض للرأسمالية الغربية.
ويشير الكاتب هنا إلى أن النظام في مصر لم يلحظ التحول الكبير الحاصل في موازين القوى العالمية فبقي موجها بصولته باتجاه الإمبراطورية البريطانية والتي غابت شمسها عمليا عن المنطقة لصالح الإمبراطورية الحديثة في حين ربطت إسرائيل نفسها مبكراً بالإمبراطورية التي بدأ يصطع نجمها وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
ويدلل هيكل على هذا الخطأ القاتل في ذكر ما ورد في رسالة رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت وهو (إبراهيم عبد الهادي) باشا الموجهة إلى السفير البريطاني في القاهرة السير(رونالد كامبل) حيث كتب له إبراهيم باشا: " إن لنا الآن أعداء مشتركين في مصر وبالقرب منها :
- الإخوان المسلمون المتعصبون الذين يكرهون الغرب ويستعدون لقتاله بالسلاح.
- الشيوعيون الذين يتحركون بأوامر من الشيوعية الدولية.
- إسرائيل التي هي المركز المتقدم في المنطقة للشيوعية الدولية."
وتحت عنوان "رحلة الفالوجة :حصارها ومحاولة إنقاذ قواتها" ، وعنوان "مرحلة الخطة ((حوريف))"يختم هيكل كتابه بتضمين مجموعة كبيرة من المراسلات بين قيادات الجيش في مصر، وسوريا، والأردن دون أي تعقيب عليها وكأنه يقول بأن المراسلات تشرح نفسها بنفسها فإذا ما اطلع عليها القاري خلص إلى ما يلي :
- أنه تم الاستفراد بالجيش المصري حيث سحبت إسرائيل معظم قواتها على الجبهتين السورية و الأردنية ودفعتها باتجاه الجبهة المصرية.
- كان قادة الجبهات السورية والأردنية على علم تام بذلك ولم يحركوا ساكنا لتخفيف الضغط على الجبهة المصرية بالرغم من أنهم كانوا قادرين على ذلك.
- تعرض الجيش المصري لهزيمة مذلة.
- كانت القوات المصرية لديها من العزم والعزيمة على القتال ما يمكنها من إدارة المعركة بشكل أفضل وهذا ما يفسره الصمود البطولي للقوات المصرية في منطقة الفالوجة القريبة من غزة في فلسطين.
- كانت حرب 1948م لها ما بعدها ونقطة البداية لتغير جوهري ليس في مصر وحدها وإنما في محيطها.