مثّل صعود الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى السلطة في الولايات المتحدة مؤشراً هاماً ولفت الانتباه إلى خطورة صعود القوى الشعبوية إلى الحكم، وطبيعة إدارتها للسلطة، ومدى قدرتها على حل المشكلات الداخلية، وإدارة العلاقات الخارجية، فضلاً عن اختراق الالتزام التقليدي بالقواعد والمؤسسات السياسية في الديمقراطيات العتيقة، كتجسيد للموقف الشعبوي من تلك القيم والقواعد والمؤسسات.
ومع صعود قوى شعبوية في بعض الدول الأوروبية خلال السنوات الأخيرة، سواء إلى السلطة، أو تزايد حصصها الانتخابية بشكل ملحوظ، فإن شبح النموذج الترامبي بات يسيطر على الأذهان، مع مخاوف من أن يمثل الصعود الشعبوي في أوروبا انقلاباً كبيراً غير منضبط على القيم والمؤسسات الأوروبية.
لكن مع التطورات الأخيرة في موقف رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني وطرحها سياسات أكثر تعقلا من برنامجها الانتخابي وتصريحاتها السابقة في العديد من القضايا وجنوح مارلين لوبان المرشحة الرئاسية السابقة والخاسرة إلى التهدئة في تصريحاتها بدى وكأن الفريق الشعبوي آخذ في التعقل ؛ و مع هذه الظروف بات هنالك سؤال يطرح نفسه بشدة وهو هل التيار السياسي الشعبوي في طور التعقل والانكماش أم هي استراتيجيات تكتيكية لمد نفوذه في المجتمع بشكل أكبر ؟
هذا السؤال حاول عبد المجيد أبوالعلا الباحث المساعد في مركز الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية الإجابة عليه من خلال دراسته التي حملت عنوان " اتجاهات متباينة: هل تتراجع مخاطر الشعبوية في أوروبا ؟" والتي صدرت عن مركز الأهرام في مارس / 2023.
بادئ ذي بدء حاول الباحث أن يميز بين التيارات الشعبوية في الدول الأوروبية بحيث أوضح أنها ليست سواء فقد تزامن صعودها معا على سبيل الصدفة لكن بعضها تراجع في بعض الدول الأوروبية وفي المقابل واصل بعضها الآخر تقدمه بما يوحي أنه سيكون له دور في رسم سياسات الدولة .
وقد أوضح أبوالعلا أنه وبالرغم من أنه يظهر بأن الدول الأوروبية والغربية بشكل عام قد تبدوا كيانا واحدا إلا أن هنالك تباين كبير بينها من حيث النشأة والتكوين والمعطيات التي شكلت واقعها والتي تنعكس بالضرورة على الحالة الشعبوية من حيث القوة والفتور، و هذا ينسحب أيضا على الخطاب الشعبوي ذاته فيجعله غير متطابق لدى كل منها.
فالخطاب الشعبوي قد يكون يمينيا متطرفا يركز على المجتمع وتركيبته الاجتماعية والأصول والأعراق ، وقد يكون يساريا يركز على الطبقات الاقتصادية في المجتمع وغير ذلك من الخطابات التي لا تمتلك برامج عملية .
ووفقا للدراسة فقد شهدت أوروبا موجة يمينية شعبوية اعتباراً من العام 2015 وحتى العام 2020 بانتخاب حكومات يمينية متشددة في بولندا والمجر والنمسا وإيطاليا مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن التيار الشعبوي لم يواصل تمدده في جميع الدول الأوروبية بنفس الوتيرة بل على العكس فقد تراجع في بعضها وانكمش في أخرى في حين واصل تقدمه في بعضها وذلك حسب ظروف كل دولة واهتمام الناخبين فيها وقوة الأحزاب الشعبوية وقدرتها على تقديم حلول مرضية للناخبين .
ففي حين أن قضايا الهجرة وتوغل الاتحاد الأوروبي في السيادة الوطنية، لم تكن على رأس أولويات القضايا في معظم الدول الأوروبية خلال عام 2022 ، فإن قضية الهجرة احتلت مكانة متقدمة في السويد، مكنت حزب ديمقراطيي السويد من الصعود الانتخابي الكبير وأن يكون ثاني أكبر حزب في البرلمان، كما شهد مطلع العام الجاري صعود الجنرال السابق، بيتر بافل إلى رئاسة التشيك على حساب منافسه رئيس الوزراء السابق والملياردير الشعبوي، أندريه بابيش.
وينوه الباحث إلى أن صعود الأحزاب الشعبوية أو سقوطها أمر لا يرتبط فقط بالوعي الجماهيري وإنما بقوة الأحزاب الأخرى وقدرتها على تبني برامج عمل ناجحة في مقابل فشل الأحزاب الشعبوية وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها فضلا عن فساد رموزها.
وتشير الدراسة إلى أن معظم الأحزاب الشعبوية باستثناء المجر لا تحظى بشعبية كبيرة بين الناخبين إلا أن هنالك عوامل خاصة أسهمت في وصولها إلى سدة الحكم من ذلك ما حصل في إيطاليا حيث أدت المشاركة المنخفضة في العملية الانتخابية إلى نجاح الحزب الشعبوي.
وتحت عنوان " شعبوية أكثر اعتدالا وبراجماتية" بين أبوالعلا بأن هنالك من يرى بأن التيارات الشعبوية في أوروبا في طريقها لأن تكون أكثر طبيعية عبر انتهاج خطاب أكثر اعتدالاً و براجماتية بل وأنها أصبحت «طبيعية إلى حد ما » في ظل حدوث بعض التقارب بين بعض المواقف السياسية للأحزاب الشعبوية الأوروبية وبين التيارات السياسية التقليدية، سواء فيما يتعلق بقضايا الهجرة، أو تخلي بعض الأحزاب الشعبوية عن مواقفها المناوئة للاتحاد الأوروبي.
وقد بينت الدراسة أن عقلنة الخطاب الشعبوي يرجع إلى مجموعة من الأسباب بينتها على النحو التالي:
- تراجع الخطاب الشعبوي في داخل أوروبا وخارجها ضاربة مثال على ذلك بسقوط ترامب رمز الشعبوية في الغرب ، وكذلك سقوط أربع حكومات شعبوية في العام 2022 هي البرازيل والفلبين وسلوفينيا وسريلانكا.
- الأزمات التي واجهتها بريطانيا نتيجة لخروجها من الاتحاد الأوروبي.
- لتخفيف القيود الأمنية والمراقبة الحكومية المفروضة عليها نتيجة لأفكارها المتطرفة التي جعلتها محل ارتياب مؤسسات الدولة.
- السعي نحو تشكيل ائتلاف حاكم قادر على الاستمرار.
- الربط بين الشعبوية وبين الفشل في مواجهة الأوبئة حيث فشلت الحكومات الشعبوية في التعامل مع جائحة كورونا .
- إدراك الحاجة إلى تعزيز القدرات السياسية والإدارية.
- تجاوز ذروة تدفق اللاجئين إلى أوروبا وأمريكا.
- سيطرة الحرب الأوكرانية على المشهد الأوروبي باعتبار أن بوتين وهو زعيم شعبوي كان سببا في اندلاع هذه الحرب.
- إضرار التصرفات الشعبوية بالأمن والمصالح الوطنية من مثال على ذلك التصرفات الشعبوية والعنصرية المتطرفة التي أقدم عليها الناشط المعادي للإسلام والهجرة، راسموس بالودان، عبر حرقه نسخة من القرآن الكريم في تظاهرة أمام السفارة التركية في ستوكهولم، والذي أثار غضب تركيا التي استدعت السفير السويدي لديها وجمدت المباحثات حول انضمام السويد لحلف الناتو إلى أجل غير مسمى.
وفي الختام تشير الدراسة إلى أن صعود التيار الشعبوي وإضمحلاله يتوقف على طبيعة الأزمات وقدرة الأحزاب البراجماتية على حلها فكلما زادت الأزمات وعجزت الحكومات عن حلها كلما قوي الخطاب الشعبوي على حساب الخطابات العقلانية والعكس بالعكس .